لماذا «يبتهج» الأطفال أكثر منا؟

TT

أكثر ما يدفع الأطفال إلى الشعور بالسعادة الغامرة في حياتهم هو أنهم لا ينشغلون سوى في «اللحظة» التي يعيشونها حاليا. فهم لا يفكرون كثيرا في «الماضي» ولا ينشغلون بما هو مخبأ لهم من أحداث «مستقبلية» وإنما يصبون جل تفكيرهم على اللُعبة التي يقلبونها في أيديهم. الأمر الذي لا نجده منتشرا بيننا في عالم الكبار فكثير منا يبالغ بالتفكير في أحداث الماضي والمستقبل فيعيش أسيرا بين فكين «همومه» و«غمومه». وهناك فارق بين «الغم» و«الهم» فالأول له علاقة وثيقة بالمستقبل أما الثاني (الهم) فهو مرتبط بأحداث ماضية.

ويعرف الهم بأنه «حزن» نعيش فيه، نتيجة تداعيات ما جرى في الماضي، ولذا قالت العرب «هَمُك ما أهَمَّكَ» أي ما أحزنك. ومنها جاءت «الهمهمة أي ترديد الكلام في الصدر» وهي ما قد يصيب بعضنا عند خروجنا غاضبا من مكتب مديره أو زميله! لكن هذا الهم المزعج نحن من اخترنا العيش فيه، فالاستمرار في الحزن هو قرار شخصي بحت. ربما دفعنا إليه موقف مؤلم تعرضنا له لكننا نحن من كنا أصحاب الاختيار، فنحن ببساطة مخيرون لا مسيرون. ولذا نلاحظ أنه إذا ما تعرض شخصان إلى الموقف المؤلم نفسه، فإن ردة فعلهما قد تختلف كلية بسبب اختيارهما. على سبيل المثال، كنت أشاهد لقاءا تلفزيونيا قبل فترة مع أحد الركاب الناجين من حادثة سقوط طائرة في عرض البحر ولما سأله المذيع عن سبب سعادته الغامرة قال إنه تأخر عن الوصول في الموعد المحدد فرفض موظفي الكاونتر صعوده إلى الطائرة فنجا من موت محقق! لو اختار هذا الإنسان أن يشتم موظفي الكاونتر أو قَبِلَ بأن يخيم عليه الحزن طوال اليوم وجلس يندب حظه العاثر، فلن يصلح ذلك شأنه. أذكر أنني تعرضت لأول مرة في حياتي للموقف نفسه، عندما أقلعت عني طائرة الخطوط الجوية الكويتية، فصدمت، فقال لي الموظف هناك مكان واحد في درجة رجال الأعمال على الخطوط السعودية؟ فقبلت، لعل في الأمر خير، ثم بالفعل جلس إلى جانبي شخص في غاية اللطف صار فيما بعد أحد أعز أصدقائي الأوفياء.  والأمر نفسه ينطبق على من «يختار» أن يقيم مأتما سنويا لوفاة شخص عزيز ويمارس فيه كل أشكال الحزن كشق الجيوب وضرب الصدور وغيرها مما يزيد همه ولوعته. ولو أنه «اختار» أن يدعو لفقيده لكان خيرا له. هذه الأمور لا يفعلها الأطفال، لأنهم منشغلون في اللحظات الجميلة الحالية، وإن فعلوها فهي قصيرة جدا سرعان ما تزول فور تفكيرهم بأمر جديد يؤنسهم.

وللأسف الشديد فإن المبالغة في هذا الحزن لا يفيد، فقد ثبت أن حرقة الحزن في قلب الإنسان تؤدي إلى إفراز هرمون الأدرينالين المهيج للانفعالات النفسية والعصبية مما يعكر على المرء مزاجه العام في عمله وسائر شؤون حياته.  وليت المحزونون يتذكرون دائما هذا الحديث النبوي الجميل لربما ساهم في التخفيف من حدة أحزانهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهم يهمه، إلا كفره الله به من سيئاته». وأذكر أنني عندما سألت زميلنا اللامع الدكتور عايض القرني: «ما سر تحطيم كتابك (لاتحزن) للأرقام القياسية في بيع الكتب بالوطن العربي حيث بيع منه أكثر 10 ملايين كتاب» فقال: إنه الحزن الذين يشغل الناس. ومازال يحاول جاهدا أن يخرج الناس من بوتقة الحزن إلى رحاب الفرح والسرور.

هناك أمر أخر يدفع أطفالنا إلى الابتهاج أكثر منا وهو تجاهلهم «للغموم». فالغم هو كل ما نخشى وقوعه مستقبلا. ولذا قالت العرب «غُمَّ الهِلال على الناس إذا ستره عنهم غيمٌ أو غيره فلم يُرَ»، وفق قاموس «مختار الصحاح». وعندما وكز سيدنا موسى شخصا ما، فقتله عن غير عمد، قال تعالى «وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا» وقال القرطبي «أي آمَنَّاك من الخوف والقتل والحَبْس». وكلها أمور مستقبلية كان مغموما بها عليه السلام. وكذلك الحال مع المشكلات المستقبلية هي أمور غيبية، والمبالغة بالتفكير فيها لا يحلها بل يدفعنا لمزيد من القلق وعدم الراحة. كل ما يمكننا فعله هو الأخذ بالأسباب المناسبة لبلوغ النتيجة المرجوة في كافة شؤون حياتنا، فلا يمكن أقلق من نتائج سقوطي في الاختبار أو احتمالية فشلي في النجاح بمشروع ما وأنا لم امض خطوة واحدة باتجاه تحقيقه أو لم أتقن عملي على النحو المطلوب.

عندما تنظر إلى الأطفال من حولك تذكر دائما أن سر سعادتهم يكمن في أنهم يحسنون «عيش اللحظة» ولا يسمحون لهمومهم وغمومهم في ثنيهم عن الاستماع بروعة الحياة. وبالتأكيد فإن هذه هي فطرة أودعها الله فيهم وليست قرار شخصيا، ولكننا نحن الراشدون من نملك نعمة الاختيار، التي تجعل منّا أناسا إيجابيين قرروا أن يبتهجوا وآخرين سلبيين آثروا التجهم والعبوس.

واسأل نفسك سؤالا واحدا، لماذا تغمرنا مشاعر السعادة والحماسة والسرور ونحن نمارس رياضتنا الجماعية المفضلة؟ الإجابة هي: أننا انشغلنا باللحظات الجميلة فنسينا همومنا وغمومنا!

*كاتب متخصص في الإدارة