مفاوضات السلام وتهديدات الحرب

TT

ما اقتصر المشهد أو الـShow في الأيام الأخيرة على متابعة محاولات جورج ميتشل إقناع الحكومة الإسرائيلية بتمديد وقف الاستيطان، بل ظهرت على المسرح الشرق أوسطي ثلاثة مشاهد أخرى، كلها لها علاقة بما يجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بتخطيط وإشراف من الولايات المتحدة. المشهد الأول والأكثر دلالة من الناحيتين الإعلامية والاستراتيجية: ذهاب الرئيس بشار الأسد إلى طهران، وإعلانه مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عن لاجدوى المفاوضات وفشلها، وخطل المفاوضين المستسلمين، كما الإعلان عن استمرار جبهة التحالف ضد التفاوض والمشروع الأميركي الصهيوني. والمفهوم أن الرئيس نجاد سيأتي يوم 13/10 إلى لبنان، وبالإضافة إلى زيارته جنوب لبنان لرمي المحتلين الإسرائيليين من «باب فاطمة» بأحجار السجيل، فقد ينتهز الفرصة للإعلان عن ضم حزب الله (ولبنان) إلى جبهة المقاومة ضد العدو والمشروع. والمشهد الثاني جرى ويجري بالعراق، حيث اجتمعت أكثرية شيعية على ترشيح نوري المالكي لرئاسة الحكومة من جديد. والمالكي هو المرشح الرسمي لإيران، ويقال إن الأميركيين يؤيدونه، أو لا يعترضون عليه. وكانت سورية تعارضه بشدة؛ لكن يبدو أن الإيرانيين يعرضون عليها أحد أمرين: إما إقناع حليفها إياد علاوي بالمشاركة في الحكومة، أو اختيار بعثيين عراقيين «معتدلين» ممن تدعمهم سورية لتمثيل جانب من السنة بالعراق إن أصر علاوي على عدم المشاركة في حكومة المالكي. ولا شك أن «تجديد» التحالف الإيراني - السوري سوف يسهل التوافق بينهما على الملف العراقي، بعد أن بدا بينهما نوع من الاختلاف أو التفاوت في الأولويات على الأقل (بشأن العراق بالذات) طوال السنوات الماضية. والمشهد الثالث الذي له علاقة بالتفاوض والاستعراض الإيراني / السوري يتمثل فيما يجري على الساحة اللبنانية، وبين سورية ولبنان منذ عدة أسابيع. فقد قال حزب الله على لسان كل مسؤوليه ومراتبه إنه يرفض الاتهام المحتمل، أو المؤكد، من المحكمة الدولية بأنه شارك بأي شكل في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم تطور الأمر لديه إلى تهديدات علنية بالإخلال بالأمن أو بالانتظام السياسي، ووقتها جاء الرئيس الأسد مع الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى لبنان لنشر نوع من التهدئة والاطمئنان بوساطة توازنية سورية. وبالفعل فإن التهدئة استمرت على تقطع لعدة أسابيع، صدرت في نهايتها تصريحات لرئيس الحكومة سعد الحريري عن العلاقة مع سورية، وأنها متينة، وستصبح أمتن، وأن قوى «14 آذار» أخطأت في حقها في السنوات الماضية، وأن «شهود الزور» (يعني الذين شهدوا ضد ضباط سوريين في التحقيق) تسببوا في تضليل التحقيق وتسييس الاغتيال. ويبدو أن الرئيس الحريري انتظر من وراء ذلك أن تقبل سورية (ومن ورائها حزب الله) بالحدود التي يستطيع المضي إليها، إنما ما رضيت سورية، بل هاج اللواء جميل السيد، أحد كبار أنصارها، ومن القادة الأمنيين الأربعة الذين سجنوا لعدة سنوات، وطالب بمحاكمة شهود الزور والذين صنعوهم، فتسببوا في ظلمه وظلم زملائه، وإن لم يفعلوا فهو سيأخذ حقه بيده! وكان السيد قد أقام دعوى في سورية ضد الذين صنعوا شهود الزور، والمصادفة الغريبة أنه بعد عودة الرئيس الأسد من طهران وعلى الفور صدرت مذكرة استدعاء وتوقيف بحق 33 من السياسيين والإعلاميين اللبنانيين من حول رئيس الحكومة باعتبار أنهم هم الذين صنعوا شهود الزور. فيريد حزب الله وسورية الآن معا من الحريري التنكر للمحكمة من حيث التمويل وانتداب القضاة والاعتراف. وهذه الأمور وإن لم تنهها، فإنها - كما يقولون - تحمي البلاد من الفتنة والدماء!

يبقى المشهد الرئيسي إذن هو مشهد التفاوض، الذي استطاع جورج ميتشل خلال قرابة العامين تحويله إلى سبيل وحيدة للتسوية والحل لمشكلة الشرق الأوسط. وقد بدا الإسرائيليون (أو حكومتهم الحالية) هم الأكثر ضيقا بالمشهد التفاوضي وبحل الدولتين. وقد حاولوا تعطيله بكل سبيل، لكن الأميركيين أرغموهم على الاستمرار ليس بالجفاء والتهديد، بل بالعناق الشديد. وعندما ثبت المشهد في الوعي والواقع، ظهر منزعجون آخرون غير الإسرائيليين وهم الإيرانيون والتنظيمات التابعة لهم من مثل حزب الله وحماس. فليس من المنطقي وهم المحاصرون بأربعة قرارات دولية، أن يجري التفاوض بجوارهم وهم معزولون عنه، وليس من المنطقي القبول بابتعاد سورية عنهم بسبب إغراء استعادة الأرض بالتفاوض؛ وبخاصة أن الأضرار لا تقتصر على عدم استفادة إيران؛ بل إن أضرارا استراتيجية سوف تنزل بها في مناطق النفوذ بالعراق ولبنان وسورية وغزة. وكان أنصار المفاوضات يأملون أن يبدأ تفاوض أميركي مع إيران أيضا بشأن قضاياها فتخف معارضتها، ولا تدفع بأنصارها لإزعاج التفاوض. وهكذا فقد ظن كثيرون أن «الاتفاق» على المالكي بالعراق هدية من إدارة أوباما لإيران. لكن إيران لم ترض، أو أنها تقصد الضغط لاستجلاب المزيد. ولذلك جاء نجاد إلى سورية قبل ثلاثة أسابيع، ثم دعا الأسد لزيارته في طهران، وهذا ما حصل وأعلن في النهاية عن ظهور أو استمرار «جبهة الصمود والتصدي». إنما المعروف أن ميتشل رسول التفاوض ما انقطع عن سورية، وحتى بعد إعلان طهران؛ فإن فريدريك هوف مساعده أتى إلى دمشق: فلماذا كان هذا الإعلان الفاقع من الرئيس الأسد عن فشل التفاوض، أو عدم جدواه، وهو الذي كان قد قبل بالتفاوض غير المباشر من طريق تركيا عام 2007 وفي ظروف وشروط أسوأ بكثير؟! فهل حدث شيء مفاجئ وسلبي في العلاقات مع الولايات المتحدة؟

في كل الأحوال، لا ينبغي أن تشتت التفاصيل انتباهنا. فالأصل في المنطقة في هذه المرحلة السعي للتسوية من طريق التفاوض، سواء بين العرب وإسرائيل، أو بين إيران والولايات المتحدة والمجتمع الدولي. وهكذا فقد خرجت المنطقة من حالة اللاحرب واللاسلم. بيد أن التسوية عملية طويلة المدى، وتتخللها أزمات تصل إلى درجة الحرب. وإعلان الجبهة من إيران، والإعلان من جهة أخرى عن إمكان استمرار إسرائيل في تجميد الاستيطان (يعني استمرار التفاوض)، يزيد من حدة التوتر بين الجبهتين، ويدني من حافة الحرب. فالممانعون يطورون وسائل لإفشال التفاوض ما دامت طهران وحلفاؤها لا يستفيدون منه. وقد يعني ذلك استخدام الساحة اللبنانية (حيث مركز قوتهم) من جديد للإقلاق، وليس الاكتفاء بارتهان لبنان تحت عناوين منع المحكمة! والمفاوضون، ومن بينهم إسرائيل، يطورون مشروعية للرد أو للمبادرة إلى الضرب (من أجل السلام طبعا!)، وليس أسهل من فعل ذلك في لبنان ضد حزب الله، وهو ذراع إيران الطويلة بالمنطقة. فـ«الله يستر»، كما يقول العرب المتعبون والغفورون.