أين هو صاحب العقل؟

TT

من الفلاسفة القلائل الذين خلفوا ثروة طائلة، الفيلسوف الفرنسي (فولتير)، ويقال إنه لم يجمع كل تلك الثروة من مؤلفاته، بل جمع أكثرها من إقراضه المال لذوي الحاجة من النبلاء، فكان يقرض نبيلا من الشباب مبلغا ما، ويتفق معه على أن يوفيه النبيل فائدة (10%) ما عاشا كلاهما، أما المبلغ الأصلي فلا يردّ مطلقا، فإذا مات فولتير فسخ العقد، وكان لا يتخير لذلك إلا الشبان من النبلاء.

وكانوا يستخفون بعقله ولا يترددون في الاقتراض منه، خصوصا وهم يشاهدون حالته التي هو عليها من السقم والضعف، ظنا منهم أنه لن يعيش طويلا فتكون الصفقة رابحة.

بل إن فولتير إذا أحس أن أحدا منهم يتردد في عرضه، أخذ يسعل أمامه وكأنه مسلول على مشارف القبر، وسرعان ما يعقد الصفقة معه.

***

لم أخجل مقدار خجلي من طفل أحد أصدقائي عندما زرته في منزله، وشاهدت طفله الذي لا يتعدى عمره ثلاث سنوات، وهو يدفع على الأرض قطعة خشب، مقلّدا بصوته دوران المحرّك. فأردت أن أشجعه أو أمازحه فقلت له: يا لهذه السيارة الجميلة.

فتوقف عن دفعها وأخذ يرمقني بشفقة قائلا لي: إن هذه خشبة وليست سيارة، أنت ما تفهم؟!

بعدها عرفت أن لا أطفال هناك بعد اليوم.

وعلى النقيض من ذلك الطفل، أتذكر أنني حضرت مجلسا فيه رجل كان على مشارف التسعين من عمره، وذكر لنا أنه للأسف قد قطع راتبه الذي كان يتلقاه من إحدى الجهات الحكومية لقاء خدمات واستشارات كان يقدمها لها، بحجة أنه قد تقدم في العمر.

وقال لنا وهو يضحك بعد أن أشعل غليونه: الواقع أنني كنت دائما حسن التدبير، ولن يؤثر معي قطع هذا المعاش، ولكن يؤسفني فقط ويحز في نفسي أنني لن أستطيع بعد اليوم أن أمضي في الادخار مثل ما كنت أدخر سابقا لشيخوختي.

***

مات الكلب العزيز للشاعر (بايرون) ودفنه ونقش على قبره العبارة التالية:

تحت هذا الحجر يرقد رفات من كانت صفاته جمالا دون غرور، وقوة دون صلف، وشجاعة دون شراسة، وجميع فصائل الإنسان دون نقائصه.

***

يقول الشاعر جميل بثينة:

فواللهِ ما أدري أَزيدَتْ مَلاحةً

وحُسناً على النسوانِ أَمْ ليسَ لي عقلُ؟!

إنني أردد في سرّي بيت الشعر هذا كلما شاهدت امرأة طاغية الجمال. واتضح لي أخيرا، وبعد كل هذه التجارب، أنني ودون شك لا أتمتع ولا بذرّة واحدة من العقل.