حكاية وحدتين

TT

رافقت كصحافي ومواطن ومراسل، سقوط الوحدة المصرية - السورية عام 1961، وقيام وحدة الألمانيتين. الأولى سقطت في مثل هذا الوقت قبل 49 عاما، والثانية قامت في مثل هذه الأيام قبل عشرين عاما. في مرحلة سقوط وحدة مصر وسورية قام جدار برلين ليفصل بين ألمانيا الشرقية الشيوعية، وألمانيا الغربية المتحالفة مع دول الغرب الكبرى. بعد نصف قرن تبدو أي وحدة عربية مستحيلة، وبعد عشرين عاما تدور ألمانيا الموحدة كالساعة، بعدما مزقتها حرب عالمية واتفاقات يالطا على تقسيمها، وقيام نظام شيوعي متلبد في الشرق ونظام خاضع لقرار الاحتلال في الغرب.

على نحو مذهل، تم خلال أشهر دمج نظام شيوعي متعثر مع نظام رأسمالي صناعي متفوق. في أقل من سنوات قليلة مارس الشرقيون بسهولة الحياة المدنية الديمقراطية بعد عقود من اسم بلا مسمى: الجمهورية الألمانية الديمقراطية. في فترة مذهلة، اندمج بلد يستخدم سيارات «ترابو» التي تشبه علب الكبريت العتيقة مع بلد تمتلئ مدنه بـ«المرسيدس» و«الأودي».

لماذا تتقدم الأمم ونتقهقر إلى ما خلف الوراء؟ لماذا تتحد دول أوروبا ويتفكك العراق، وتنعق طيور البوم فوق لبنان، ويتدحرج اليمن بلا توقف؟ لقد ترجم أسلافنا اسم «الولايات المتحدة» خطأ، لأننا كنا نعيش في زمن الولايات التركي. الترجمة الصحيحة هي «الدول المتحدة» بكل وضوح. وما بين الدول المتحدة الأميركية ووحدة الدول الأوروبية، نبدو على بعد دهر من ذلك الحلم الأول.

لماذا؟ لأننا نريد أن نبني إمبراطورية قبل أن نبني مدرسة وفرنا. أراد جمال عبد الناصر وحدة كل العالم العربي في يوم واحد. كان صادقا في مشاعره، لكنه لم يدرك أن الوحدة في القرن العشرين لم تعد ممكنة إلا بالمحبة والمساواة وتواضع الشريك الأكبر. لم يسخر الألمان الغربيون من فقر الشرقيين. وفي الوحدة الأوروبية لم تطلب بريطانيا من دوقية لوكسمبورغ أن تعتمد اللغة الإنجليزية.. ولم تطلب فرنسا من بلجيكا أن تغير برامج الأدب في المدارس. قامت أكبر وأهم وحدة في التاريخ من دون رفع صور الزعماء على كل الجدران. تبادلت الدول المعلومات لا السجناء. كلفت الجيوش بحماية السلام لا مطاردة الناس. ظل آخر قاض في آخر بلدة في بولندا يحكم بقانونه وضميره لا بأوامر برلين أو باريس. سقطت الوحدة العربية، وقام جدار برلين في عام واحد. تأملوا الآن ماذا حدث عندهم وماذا حدث عندنا منذ ذلك الوقت.. أو بالأحرى انسوا.. فليس المطلوب أن نتذكر دائما إخفاقاتنا وكوارثنا ونصف قرن عدنا خلاله خمسة قرون إلى الوراء فيما تقدم العالم خلاله خمسة قرون مذهلة. من يدري أين كان العالم العربي اليوم لو عاشت وحدة سورية ومصر.. ولو لم يتحول حديث الوحدة بعد الانفصال إلى دعابات ثقيلة في العواصم.