شكرا.. ويرحمها الله!

TT

انتسبت بعض الوقت إلى جامعة السوربون أدرس علم الجمال. كل شيء ساحر.. الهدوء، رائحة الخشب، برودة الأرض والأعشاب وعليها قطرات المطر، هذه الوجوه، وهذا الفراغ الجميل.. الفراغ هو قاعات البحث التي خلت من الطلبة.. أنا جلست في الصف الأول، وفي أقصى اليسار جلست فتاة، وفي آخر مقعد من المدرج جلس طالب له لحية ويكبرنا في السن.

جاء الأستاذ؛ كل الاحترام لعلمه ووقاره. من أجل هذه الصفات جئنا نتعلم. دخل الأستاذ من دون أن ينظر إلينا. سكت.. ثم قلب في الورق ووضعه بعيدا عنه، ثم رفع رأسه وقال.. وكان صوته خفيضا، فتحرك الطلبة إلى الصف الأول!

انتهت المحاضرة فجأة، وكأن الأستاذ أحد العقارب في ساعة لا نراها، وتوقف نهائيا، وخرج. وخرجنا.. لا أحد يكلم أحدا. المطر غزير.. وقد جعلني أتجول في الطرقات، وفجأة وجدت اسم الأستاذ على إحدى القاعات، فدخلت، وجلست، وجاء الأستاذ؛ إنه ليس هو.. إنه أطول.. أعرض، وله كرش.

وبدأ الكلام بصوت مسموع، ولم أفهم كلمة واحدة مما قال.. تلفت حولي فوجدت الطلبة مستغرقين في الفهم.. غلطة؟ مني؟ من الأستاذ؟ بل مني.. وتسللت إلى خارج القاعة وقرأت اللافتة؛ إن له اللقب نفسه.

أما موضوع المحاضرة فهو «كربون الماس والغرافيت وعالم النانو تكنولوجي».

«يا نهار أسود.. ولا كلمة.. ولا العنوان!».

وعرفت من المستشار الصحافي لسفارة فرنسا أن هذا الأستاذ سوف يلقي محاضرة في «المجمع العلمي الفرنسي» الذي أنشأه نابليون في القاهرة. ورفض أن يكون رئيسا وإنما نائب الرئيس، أما الرئيس فلا بد أن يكون عالما.

وبكل حب وسعادة ذهبت لسماع المحاضرة، وكانت عن علم الجمال وعلاقته بـ«النانو». أقول لك الحقيقة؛ لقد كان مفهوما ممتعا. ذهبت إليه أشكره وقلت له: «لم أكن أتصور أن جو القاهرة وهدوء (المجمع العلمي) حوّلا الألغاز إلى هذا الجمال في العبارة والشرح والحفاوة بنا وبك..».

قال لي: «الأسبوع القادم سوف تجيء زوجتي لتلقي محاضرة عن (الأدباء العرب المعاصرون) وأنت من بينهم». منتهى السعادة. وجاء اليوم وكان قاطعا: لقد توفيت زوجته.. شكرا لها.. ويرحمها الله!