«وهدوا إلى الطيب من القول»

TT

تصريح السيد علي خامنئي في الأول من هذا الشهر حول احترام شعائر الإخوة من السنة، بناء على استفتاء بعض علماء الشيعة العرب، وما قابله من رأي صدر من شيخ الأزهر، طريق طيب لتخفيف هذا الاحتقان الذي هو إما ظاهر وإما باطن، بين فئتين مسلمتين، حتى وإن اختلفتا في الفروع يجمعهما دين واحد واسع الرحمة.

هذان التصريحان مرحب بهما من العقلاء وبعيدي النظر، ولا يجب أن يتركا هكذا دون تعليق أو متابعة، لأن أي تصريحات من أي جانب لن تزيل بين يوم وليلة الاحتقان السائد، وهو في الحقيقة احتقان سياسي لبس لبوس الطائفية، فأصبح كل فريق بما لديهم فرحين.

السيد علي خامنئي يمثل السلطتين الروحية والزمنية في إيران، وشيخ الأزهر له سلطة روحية معنوية تحترم، إلا أنه لا يملك سلطة أخرى على أي جهاز من أجهزة الدولة. هذا الفارق علينا أن نناقشه أيضا بقول طيب وبهدوء.

الشيعة مكون أساسي في البحر العربي السني، وهم أيضا مكون له أغلبية في بلاد عربية منها العراق، وأيضا عنصر وطني في أكثر من بلد، سواء في الخليج أو غيره من البلدان العربية. هذا المكون الأساسي ليس له لون سياسي واحد متطابق، يحمل ألوانا سياسية متعددة. وعلى خلاف ما يريد بعض المستشرقين العناية به وتوسيع صدقيته بالقول إن التراث المسيحي يتبنى فصل الدولة عن الدين، اعتمادا على القول إن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وإن الإسلام (بالمطلق لم يعرف هذا الفصل)، على رأس هؤلاء شيخ المستشرقين برنارد لويس، حتى في آخر كتبه «الإيمان والسلطة، الدين والسياسة في الشرق الأوسط» مطبعة أكسفورد 2010، وغيره من خاض في الموضوع. إلا أن هذا القول ليس صحيحا تاريخيا، وربط ما يحدث من (حركات جهادية مسلحة) إن أردنا التسمية المحايدة، ويراها كثيرون إرهابا غير مبرر، ربط مقولات هذه الحركات بالإسلام تعسف فكري وغموض أيديولوجي متعمد. فالدولة والدين في التاريخ الإسلامي الطويل على ما بينهما من ترابط أيضا، لهما أدوار مختلفة، طبقت كما يعرف دارسو التاريخ الإسلامي العربي في معظم سني ذلك التاريخ منذ الدعوة المحمدية.

في التاريخ المعاصر قررت فئات، نتيجة عدد من العناصر المرافقة للتغيرات السياسية والاجتماعية، أن تأخذ الجميع إلى الجهاد الأصغر عنوة، كما تراه، وتناست قياداتها القاعدة الأهم بمراحل في الأولوية الإسلامية، وهي الجهاد الأكبر، أي بناء الإنسان والدول وإحياء الأرض. ومن يتأمل في القرآن الكريم يجد الدعوة إلى التسامح وقبول الآخر هي القاعدة الأكثر بروزا من أي قواعد أخرى، اقتصها البعض وسار بها على أنها الأصل.

بالعودة إلى تصريح السيد خامنئي والأزهر المقابل له، أقرأ التصريحين على أنهما تخليص الديني / المذهبي، من السياسي المؤقت. والخلاف السياسي قائم ليس بين تابعي المذهبين، بل هناك من هم من الطائفة الأخرى يؤمن بما يذهب إليه سياسيا الآخر. فالانقسام الحاصل وإن كان شكله مذهبيا، لأن البعض يريد أن يتمكن من الحشد والتجنيد خلف التصور الانقسامي، إلا أن الحقيقة الواضحة أن هناك خلافا سياسيا. وهو خلاف يريد البعض أن يأخذه إلى العامة على أنه تاريخي عقائدي، وقد نجح المتشددون في الطائفتين على أخذه في أكثر الأوقات إلى ذلك المكان، ويرى بعض المؤججين السياسيين أن بمقدورهم أخذ الخلاف السياسي الحاصل إلى مكان مظلم وطائفي، حيث يسهل لأهل الفتنة تبسيط الأمور وطرحها للعامة تخويفا من الآخر أو إغراء للحشد والتحزب.

وهنا يبرز حلان لا ثالث لهما من أجل حفظ درجة الاحتقان، جربتهما شعوب أخرى ونجحت، لأن أي حلول أخرى، منها الحلول الصراعية، فشلت فشلا ذريعا، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر، في الصراع الدموي بين البروتستانت وبين الكاثوليك في أوروبا. الحلان العقلانيان هما إدارة الاختلاف المذهبي بالتسامح، وإدارة الاختلاف السياسي بالحوار. التسامح هو القدرة على تحمل الرأي الآخر حتى لو كان مناقضا للمنظومة الفكرية التي تؤمن بها. لا مكان للعقلاء في النزوع إلى التفكير بالطريق الآخر الشائك، وهو الاحتراب بصوره المتشددة أو العنيفة، لأنه لم يقدم حلا تاريخيا، على الرغم من غزارة ما سال من الدماء، لا في التجربة الإسلامية ولا في أي تجربة إنسانية أخرى.

التسامح في الفكر العربي الإسلامي موثق بأجلى صوره (من ابن عربي إلى جلال الدين الرومي) وتتجاوز شعبيتهما اليوم فكريا الزمان والمكان، وحتى الثقافات، بسبب قدرتهما الفائقة على إشاعة الحب والتسامح وقبول الآخر المختلف. في الضفة الأخرى، ينقل عن توماس جيفرسون، ثالث الرؤساء الأميركيين، وأحد المؤسسين للولايات المتحدة، الذي تقول عنه الموسوعة الإيرانية «متفكري أصيلي»، أي مفكر أصيل، إنه قال: «ليس المهم أن يعبد جاري ربا واحدا أو لا يعبد أحدا، إن لم يسرق من جيبي ولم يكسر رجلي»، رغم هذا القول المستنير، فإنه لم يمنع بعد موت جيفرسون بثماني سنوات، أي في عام 1834 أن أحرقت عصابة من البروتستانت قرب مدينة بوسطن، قسا كاثوليكيا حيا بحجة التطهر منه، وبعدها بسنوات أعلن حاكم مزوري أن على جميع طائفة المورمون، أن يتركوا ولايته تحت طائلة القتل إن لم يفعلوا.

في جميع الشعوب تظهر موجات من التعصب نتيجة ظروف اقتصادية / اجتماعية / سياسية، كما حدث في الولايات المتحدة، بعد أن كان الإسلام أسرع دين يدخله الناس، إلى تراجع وصل إلى حد الخوف المرضي، الإسلاموفوبيا، بعد كارثة 11 سبتمبر (أيلول) التي قادت ضمن ما قادت إليه التهديد (كما حدث لدى القس في فلوريدا) بحرق القرآن الكريم.

هذا العصاب الذي يصيب الناس ويستغل من السياسيين ويذر عليه الجهال الكثير من الملح، ليس هو التوجه التاريخي للإنسان على الأرض، التوجه كما نقرأ في تاريخ الإنسانية هو إلى التفاهم والتسامح وقبول الآخر. وتزداد أهمية التسامح في الوطن الواحد وبين المواطنين.

بعد هذا، في السياسة بالتأكيد هناك خلاف في وجهات النظر بين الجمهورية الإسلامية وقيادتها السياسية القائمة، وبين دول عربية. فالتخويف والتهديد وتصدير الثورة، والتدخل عن طريق وكلاء في سياسة بعض الدول العربية، من بين أمور أخرى، يختلف الجانبان الإيراني والعربي عليها وهي مؤشرات مقلقة. القدرة على حل الاختلاف وتفهم الهواجس من كل طرف دون افتعال أزمة بين الناس ومواطني الطرف الآخر، عن طريق الاتصالات البناءة والهادفة، هو الطريق الأسلم لحفظ المصالح القائمة على الاحترام. أما المكون السني والمكون الشيعي فسيبقيان إلى أن يرث الله الأرض.

دعوة السيد خامنئي التي تقرأ في إطارها السياسي تحتاج إلى ما بعد التصريح إلى الفعل، وهو فعل لا يوفر الطرف الآخر، ولكنه يحفظ نسبة التأجيج والمخاطرة بالأوطان.

آخر المقال:

والمقال يُكتب، نقل إلي خبر وفاة الصديق المرحوم محمد مساعد الصالح، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقد كان صديقا وصالحا وإنسانا وصحافيا قديرا ووطنيا عروبيا. في كل مساحة السنوات التي قاربت الـ4 عقود في صحبته لم أسمع منه إلا كل خير عن الآخرين، ولم أر إلا الفعل الصالح. تقبله الله في جناته، وألهم السيدة زوجته الكريمة أم طلال وأبناءه الصبر، وعظم الله أجركم وكل أصدقائه ومحبيه.

«إنا لله وإنا إليه راجعون»