مشاهد من مشوار العمر

TT

سؤال كثيرا ما يوجه إلي: حضرتك اتسجنت قبل كده؟

وعندما أجيب بالنفي ألمح في عيني محدثي نظرة مليئة بالشك والدهشة، هو لا يتصور كاتبا في سني لم يتشرف بدخول السجن في العهود الثلاثة، عبد الناصر والسادات ومبارك. الواقع أن الشاعر أمل دنقل رحمه الله كان له قول مأثور في ذلك، وهو: ما فيش شاب مصري لم يسجن أو كان على وشك دخول السجن.

الواقع أنني من النوع الثاني، الذي كان على وشك، ثم أفلت بالحظ في العهود الثلاثة، نعم أنا أسميه الحظ، سمه أنت ما شئت، ولكني أؤمن أن عنصر الحظ هو الحاسم في مشوار حياتنا جميعا. كانت المرة الأولى عندما انتقلت الأسرة من دمياط إلى بني سويف في شتاء عام 1956، وهي نقلة تشبه إلى حد بعيد انتقالك من باريس إلى أحراش الكونغو، ظللت في دمياط لعدة شهور بعد أن تلقيت خطابا من أبي يقول فيه: المدينة كئيبة وفي الغالب لن تجد فيها عملا، ومع ذلك عجزت عن البقاء وحدي في دمياط فسافرت إلى بني سويف، وعلى الفور ذهبت أبحث عن فرصة للتمثيل في فريق الجامعة الشعبية (الثقافة الجماهيرية حاليا) وهناك تعرفت على كل هواة التمثيل في المدينة الذين أطلقوا علي اسما جديدا هو علي الدمياطي، شخص واحد فقط منهم جميعا تمكن من الانتقال إلى دائرة الاحتراف في القاهرة هو الممثل المعروف محمد فريد، الباقون جميعا على الرغم من مواهبهم العالية عجزوا عن ذلك. في تلك الفترة تعرفت على صديقي أحمد بلبل، الذي عرف أنني من هواة القراءة فأهداني كتابا هو «الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية»، عجزت عن فهم حرف واحد منه، تأليف شخص روسي اسمه لينين، فقلت له: أنا عاوز أقرا روايات.

لم أكن أعرف أن أحمد عضو في تنظيم ماركسي يقوده صاحب مدرسة خاصة، كان أحمد وارثا جديدا ويعيش حياة نسبيا مرفهة، لذلك عندما طلب مني أن أذاكر معه رحبت على الفور.. على الأقل سأجد شايا وسكرا وسجائر بلا حدود، كانت أسرته قد خصصت له غرفة في الطابق الأرضي، بعد أن ذهبت إليه قال لي: اسمع.. أنا رايح أقابل بنت دلوقت.. مش حاغيب.. وإذا غبت ممكن تنام هنا.. وعندك السجاير والشاي والسكر..

لم أتصور أن أبقى بمفردي في بيت لا يعرفني فيه أحد، فقلت له على الفور: لأ.. أنا مروّح..

وتركته وعدت إلى البيت، عاد هو بعد مقابلته لفتاته لينام، وليقبض عليه قبل الفجر بقليل. كانت أوامر الاعتقال في ذلك الوقت صيغتها هي «يقبض على فلان ومن معه».. كانت هذه هي المرة الأولى وأحمد الله أنني لم أكن معه لحظة القبض عليه.

ويتدخل الحظ في المرة الثانية في عصر السادات، بعد انتفاضة الشارع في 17 يناير (كانون الثاني) 1977 التي سماها السادات «انتفاضة الحرامية»، كان من الطبيعي أن تقبض أجهزة الأمن على بعض الناس ومن بينهم عدد كبير من المثقفين، في صباح ذلك اليوم كنت في مطار القاهرة في طريقي إلى الرياض لأعمل في شركة إنتاج سعودية يمتلكها مخرج سعودي هو عبد الله المحيسن، عرفت بعد ذلك أن رجال المباحث سألوا عني كثيرا إلى أن تأكدوا أنني قد غادرت البلاد، الواقع أن من قبض عليهم في ذلك الوقت قضوا في السجن شهورا قليلة، غير أنك تعرف بالطبع بأن الساعة في السجن بألف ساعة مما تعدون.

المرة الثالثة كانت في عهد الرئيس مبارك، اتهمت في قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، كان دوري هو أنني كتبت فيلما دعائيا يغري الناس بالذهاب إلى لجان الانتخابات للإدلاء بأصواتهم، لم يستدعني أحد، غير أني كنت أقرأ يوميا أن نيابة أمن الدولة على وشك استدعائي. كلمني فريد الديب وكان محامي الدكتور سعد، وقال لي: «أنا مطلوب مني أن أقدم مذكرة دفاع عن الدكتور سعد.. ولكن لا بد قبل ذلك أن تدلي بأقوالك بوصفك شاهدا.. حتروح هناك تقول كلمتين».

فأجبته: «يا أستاذ فريد.. أنا كل يوم بيتقبض علي في الجرايد.. والله لو أن أحدا استدعاني بالتليفون لذهبت إليه». على الفور طلب رقما في التليفون وأجرى مكالمة سريعة، ثم قال لي: «السبت الساعة العاشرة صباحا ستقابل محمد بك الفيصل في نيابة أمن الدولة العليا».

بدلة كاملة وربطة عنق وذهبت في الموعد المحدد، سألني وكيل النيابة: معك محام؟

أدهشني السؤال، أجبته بالنفي، طبعا معلوماتي المحدودة في القانون، لم تدلني على أن الشهود في حاجة لمحامين، قال لأمين السر: وحضر المتهم وحده.

أخرج من درج مكتبه كتيبا صغيرا وقال لي: سأقرأ عليك الآن المادة التي أحقق معك بموجبها..

لو أنني استعنت بمحام لكنت قد شرفت سجن طرة، ربما لعدة شهور طبقا للقانون، كان سيدفع بأن القانون يحتم أن يرسل السيناريو الذي كتبته إلى جهة الاختصاص وهي نقابة المهن السينمائية لكي تكتب تقريرا عما فيه، وطبعا وكيل النيابة كان لا بد أن يوافق على طلبات الدفاع فيأمر بإيداعي سجن طرة أو أي سجن آخر، إلى أن تكتب النقابة تقريرها، غير أن جهلي بالقانون وعدم استعانتي بمحام، جعلاني أعتمد على الحدس فقط في الدفاع عن نفسي، هذا هو بالضبط ما يقوله عالم النفس يونج، عندما تتعارض حسابات العقل مع ما يشير عليك به اللاوعي تخلّ عن حسابات العقل فورا.

بعد خمس ساعات اكتشف وكيل النيابة أن الشخص الذي يحقق معه يستحق تهمة أخرى غير تلك الموجهة إليه، وهي تهمة السذاجة التي لا حدود لها، وهي السذاجة التي بدأت بأول جملة لي في التحقيق: أنا فلان الفلاني المؤلف المسرحي والسيناريست أقر بأنني وحدي المسؤول قانونيا وسياسيا وأخلاقيا عن سيناريو فيلم «ادخل شريك وشارك».

وأفرج عني وكيل النيابة بعد تحقيق استمر خمس ساعات، ثم تحولت إلى شاهد بعد عام واحد تقريبا، ووجه إلي القاضي سؤالا غريبا: انت اتسجنت قبل كده؟

وهنا حدث شيء مروع، حبكت النكتة، إنها لحظة كارثية يعرفها جيدا المشتغلون بصناعة المسرح، أجبته: لأ يا فندم.. بس لسه عندي فرصة..

انفجر عضوا اليسار واليمين ضاحكين، كما استغرق الحضور في الضحك، فتجهم وجه القاضي وقال لي: استنى استنى.. قصدك إيه؟

فانسحبت إلى الخطوط الخلفية على الفور، وقلت: التفكير مهنة خطرة في العالم كله وخصوصا في العالم الثالث.. وأنا أفكر.. أي أن الخطر قريب مني دائما.

من الواضح أن إجابتي لم تقنعه، غير أنه رضي بها على أية حال.

أشكرك يا رب، وأبتهل إليك أن تنقذني في المرة الرابعة.