هواية الشتم

TT

العملاقان الشامخان في دنيا الشعر العربي هما أبو الطيب المتنبي وأبو العلاء المعري. المستشرقون الغربيون، الذين شتمهم إدوارد سعيد، يعجبون بالمعري ويحتقرون المتنبي. المعري دون أي شك أعمق فكرا وثقافة وفلسفة وأغزر بالأفكار المتحررة والمتطورة والعامرة بمنحى الشك من المتنبي. ولكنك تجد أن جل، وربما كل، المتأدبين العرب يميلون إلى التعلق بأبي الطيب. تكلم مع أي مثقف عربي في الموضوع فتجده يستشهد لك كبرهان على عظمة المتنبي بذلك البيت الغارق في العنصرية والفكر المتخلف:

* لا تشتري العبد إلا والعصا معه -

إن العبيد لأنجاس مناكيد

* لن تجد بيتا من الشعر يشتم سكان قارة بكاملها أفظع من هذا، ولكنك لا تلبث غير أن تهز برأسك طربا واستحسانا بما قاله الشاعر. ويظهر أن هذا هو سر تفضيلنا ابن الكوفة وترجيحه على ابن المعرة؛ أنه يتقن الشتم، وهو ما يهواه ويمعن فيه أبناء الرافدين. وقد تمسكوا بهذه الروح وخلفوا لنا سلسلة جيدة من الشتامين، وكان من آخر حلقاتها محمد مهدي الجواهري الذي ناظر حياة المتنبي في التأرجح بين الشتم والمدح.. الهواية العربية المثلى في الأدب.

ولكن قبل أن يتألق نجم الجواهري، جرت في العراق منافسة مشابهة في الثلاثينات بين معروف الرصافي وجميل الزهاوي، نجد فيها ظل المعري متمثلا بالزهاوي في الغور في دنيا الفلسفة والفكر الحر وروح الشك والعلوم الحديثة. فمن شطحاته الفكرية نظريته العلمية أو غير العلمية في الواقع، عن الجاذبية، التي ألغى بموجبها فكرة الجذب وجاء بدلا عنها بفكرة الدفع. ولكنها كانت مغامرة مشكورة وجريئة في آفاق العلوم في بلد من أفقر بلاد الله في العلم. ولكن العراقيين لا يحبون الزهاوي ويفضلون عليه معروف الرصافي. تسألهم عن ذلك فيستشهدون لك بقوله في فيصل الأول، باني صرح المملكة العراقية الحديثة:

* ليس له من أمره غير أنه -

يعدد أياما ويقبض راتبا

* دعاه الملك لمنزله ليعاتبه على قول ذلك، ويذكره بما كان يقوم به من مسؤوليات ويعانيه من هموم في النهوض ببلد يملك شعبه من البنادق أكثر مما يملك جيشه - كما قال.. «أأنا الذي يعدد أياما ويقبض راتبا يا معروف؟».

بيد أن معروف الرصافي - والحق يقال - دعم هواية الشتم بروح الشجاعة فأجابه قائلا: «عسى ألا تكون!».

الرصافي حلقة أخرى من هذه السلسلة التي نعتز بها في دنيا الأدب، سلسلة الشتامين. قلما يوجد مثقف عراقي لا يحفظ بيتين أو ثلاثة من أشعاره الممعنة في الشتم البذيء والسوقي.

عاصره شاعر شعبي آخر هو عبود الكرخي الذي وصل فيه القذف البذيء والكلام الشنيع قمته. هو الآخر قلما تلتقي بمثقف عراقي لا يحفظ شيئا من بذاءاته وشناعاته في الهجاء الذي حوله إلى مهنة ووظيفة ووسيلة لكسب لقمة العيش.

ما الذي جعلنا مهووسين بهواية الشتم حتى على أعلى مستويات الفكر والأدب؟ سؤال طالما حيرني وأتركه للإخوان علماء الاجتماع.