خروج العرب من لبنان!

TT

هل خرج العرب من لبنان الخروج الكبير؟ الصحافة اليوم منشغلة بزيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى لبنان، كما انشغلت من قبل بحرب إسرائيل على لبنان عام 2006.. لكن المنعطف الحقيقي في تاريخ لبنان هو الخروج السوري منه عام 2004. فبعد الخروج السوري أصبح لبنان ساحة تنازع «على المكشوف» بين إسرائيل وإيران. ولهول الصدمة نجد من بين العرب، سواء في لبنان أو خارجه، من يصفق لإيران، والبعض الآخر، ربما نكاية في الفرس، قد يصفق لإسرائيل.

كثير من العرب هللوا للانسحاب السوري، بل كان موضع شماتتهم أحيانا، غير مدركين أن الفراغ الذي سيخلفه خروج دولة عربية بحجم سورية من لبنان سيكون جاذبا للأطراف غير العربية الإقليمية لملئه. ليس هذا وحسب، بل السوري نفسه تحالف مع أحد أطراف الصراع غير العربي في لبنان وهو إيران؛ فبالطبع لن تتحالف سورية مع إسرائيل التي تحتل الجولان السوري. وحتى لا أفهم خطأ، أنا لست مع أي خطوة تنتقص من سيادة لبنان أو سيادة أي دولة عربية، ولكن خصوصية العلاقة السورية اللبنانية وما يمثله لبنان من عمق استراتيجي لسورية ووجود الجارة الإسرائيلية غير الودودة الممتدة على حدود لبنان الجنوبية وتنامي حزب لبناني داخلي بميليشيا تتعاظم وتمد له إيران يد العون والدعم بلا حدود، كلها معطيات خطيرة كان يجب أن تؤخذ ببالغ الدقة والحذر عند التعاطي مع الوجود السوري في لبنان.

ولو أن أحدا قد نام منذ ستينات القرن الماضي، حين كانت فكرة القومية العربية تسطع كالنجوم في السماء، وصحا اليوم لندم على صحوته.. العرب منقسمون مثلما ينقسم جماهير كرة القدم، يصفقون للاعبين ليسوا منهم، كأن ترى مثلا أطفالا في القاهرة أو دمشق أو الرياض يضربون بعضهم البعض في لحظة حماس بعد مباراة لبرشلونة وريال مدريد، لا هذا فريق مصري ولا ذاك فريق سوري ولا سعودي. فقط عندما لا يكون لديك فريق في الملعب تصفق لمن تريده أن يكسب المنازلة، والمنازلة اليوم في لبنان بين إسرائيل من ناحية وإيران من ناحية أخرى. والأسئلة المنطقية هنا: لماذا يشجع العرب هذه المنازلة، هل يظنون في لحظة توهم أنهم جزء من اللعبة؟ كيف يحاول العرب في عالم السياسة أن يتوسطوا من أجل بقاء استقرار معادلة الوجود غير العربي في لبنان؟

قد يظن المصفقون للفريق الإيراني أنني أكتب هذا بدافع كراهية لإيران أو غير ذلك. أقول إنني لا أكره إيران، بل أحترم الحضارة الفارسية، وأحب إيران وهي باقية داخل حدودها غير ممتدة بأذرعها ومطامعها في بلداننا.. الوضع في لبنان غير مقبول أبدا، ولكنني وبكل أمانة قابلت من اللبنانيين أنفسهم من هم غارقون في تفاصيل المباراة الدائرة، ناسين أنه لا يوجد فريق للبنان في مباراة مقامة على أرضه؟ كيف أصبح اللبنانيون مغيبين إلى هذا الحد، وأي أنواع «البانجو السياسي» يدخنون؟

وصل بنا الحال في عالمنا العربي أن يكتب الكاتب مقالا كهذا ولا يدري أي الدول العربية سوف تمنعه من دخول أراضيها؟ لم نعد نعرف نحن مع من وضد من عندما ندافع عن الحق العربي. البعض يفضل أن يدافع عن الحق العربي بشكل انتقائي، أي يدافع عنه عندما يكون العدو قادما من الغرب أو إسرائيل، أما عندما يأتي العدو من الشرق، فهذا على رأي النكتة المعروفة: «دا ما يبقاش عدو.. دا يبقى حبيب»، ما دمنا مشغولين بمواجهة إسرائيل وأميركا فلا بأس أن ينهب عدو الشرق أراضينا في الإمارات، وفي لبنان، وفي أي مكان آخر. مشغولون بالمواجهة من الأمام، أما الخلف فقررنا طواعية أنه لا عيب فيما يحدث هناك.

طبعا العرب فعلوها من قبل، أي تحمسوا لمعركة ليسوا لاعبين فيها، حين أيدوا هتلر ألمانيا في الحرب لأن بريطانيا وفرنسا تحتلان أراضيهم، كانوا يظنون أنه إذا كسب الألمان الحرب فسوف يمنحونهم الاستقلال، وخسر الألمان، ومنح الإنجليز العرب الاستقلال، ليس من باب الكرم طبعا ولا حتى رضوخا لضغوط المقاومة، بل لأن الإنجليز قرروا فك المستعمرات، بدأوا بالمستعمرات الكبرى في الهند، ثم جاء دور الشرق الأوسط، ولكن جماعة «البانجو» روجوا لقصص أخرى غير واقعية عن الاستقلال.

حكى لي مصدر موثوق أن أحد الصحافيين «الثوريين» سأل الشيخ زايد رحمه الله في يوم اليوبيل الفضي لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، قائلا: «سيدي الشيخ، هلا أخبرتنا بملحمة مقاومتكم للاستعمار؟» فرد الشيخ بعقلانيته المعهودة: «لم تكن هناك مقاومة ولا يحزنون، جاءنا الإنجليز ذات صباح وقالوا (نبي نسير) (نريد أن نرحل)، فقلت لهم ولماذا ترحلون الآن ونحن نحتاج إلى خبراتكم في استخراج النفط وتنمية بلدنا؟ حاولنا إقناعهم بالبقاء، لكنهم ساروا». لم يكن هذا الكلام الواقعي هو ما يشتهيه الصحافي «الثوري»، كان يريد تهويلا وتضليلا. الشيخ زايد كان واقعيا، ورؤيته صافية إلى أبعد الحدود. وهذا ما يعيدني إلى قصة لبنان، بعد هذه الانعطافة التي لا يفوت مغزاها على القارئ النبيه.

لبنان يحتاج إلى أناس لم يغش الضباب عقولهم كي يروا الأمور بوضوح، وليدركوا أن الفريقين المتنافسين اليوم على مصير لبنان لا تعنيهما مصلحة لبنان وأمن أهله وتنمية اقتصاده، على العكس تماما فهما يريدان هدم لبنان على رأس أهله. في لبنان نثر بعضنا حبات الأرز وبراعم الورود على دبابات شارون، وقبل آخرون أيادي الرسل القادمين من إيران، في حين «كسرنا جرة» (كما نقول في الصعيد) خلف القوات السورية المنسحبة، والتي نظرنا إليها بعد حالة من الشحن العاطفي وكأنها المحتل الأول والأخير للبنان. كيف حدث هذا؟ وهل كان الخروج السوري مقدمة لخروج الدور العربي كله من لبنان؟ هل غسل العرب أيديهم من لبنان؟ هذا هو سؤال أوجهه للمجتمعين في سرت.