إلى متى مؤامرة الصمت هذه؟

TT

ثوان مرت كأنها الأعوام الثقيلة على قلب يخفق للحرية، وعلى روح ناضلت ضد ظلم الاحتلال وإذلاله، وعلى جسد يتكور على ذاته محاولا تجنب همجية القرن الواحد والعشرين بجدران زنزانة لا باب لها ولا نوافذ، جسد نحيل غض ورأس محجب وعينين معصوبتين بغياب مطلق للضمير الإنساني فيما وحوش العصر الغربي الجاثم على أرض السيد المسيح يرقصون حول ضحيتهم الأسيرة. هل يرقص وحوش الاحتلال احتفالا باختطاف فتاة عربية؟! كل ذنبها هو أنها مناضلة من أجل حريتها وحرية شعبها؟! أم يرقص هؤلاء احتفالا بموت الضمير العالمي الذي يتشدق بحقوق الإنسان وحريته ويولي ظهره لأقدس كفاح من أجل الحرية في القرن الواحد والعشرين ألا وهي حرية شعب فلسطين، وكفاحه للخلاص من الإرهاب الإسرائيلي الدموي الجاثم بفعل الدعم الغربي طوال أكثر من ستين عاما.

تروي الأسيرة المحررة إحسان دبابسة (24 عاما) قصة شريط الفيديو الذي يظهر فيه جندي إسرائيلي يرقص على أنغام موسيقى صاخبة حول الأسيرة وهي مكبلة اليدين ومعصوبة العينين وتستكمل القصة «بأن جنديا آخر أحضر قنينة خمر وعرض علي الشرب» وما هي إلا لحظات حتى هاجمها الجنود كالذئاب المسعورة وبدأت رحلة الضرب بأعقاب البنادق وبأرجلهم «وقام أحد الجنود بضرب رأسي بالحديد حتى أغمي علي ثم نقلت إلى مركز تحقيق المسكوبية وهناك كان ثلاثة محققين وما إن دخلت عندهم حتى بدأوا بكيل الشتائم والمسبات وكان أحد المحققين يشدني من شعري وكنت طيلة الوقت مقيدة اليدين».

وقصة إحسان دبابسة هي إحدى القصص المتكررة يوميا مع الأسيرات والأسرى العرب في سجون آخر كيان للفصل العنصري في العالم. ورغم أن عدد الأسرى يبلغ أحد عشر ألف أسير وأسيرة حاليا فإن العالم الغربي «المتحضر» لا يتذكرهم إلا حينما يتم تهريب ثوان من معاناة أحدهم، وهي ثوان فقط مقارنة بأعوام العذاب الطويلة التي يخضع فيها الأسرى الفلسطينيون لأبشع ضروب التعذيب، والذل، والإهانة وتحطيم الكرامة الإنسانية دون أن تنتفض أجهزة الإعلام الغربية «الحرة» أو منظمات حقوق الإنسان أو مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ليدين مثل هذه المعاملة المهينة التي تتناقض تناقضا صارخا مع أبسط قواعد الأخلاق والقوانين والاتفاقات الدولية.

ربما خوفا من مصير المذيع الأميركي ريك سانشيز الذي أقالته محطة الـ«سي إن إن» فقط لأنه قال «إن اليهود غير مضطهدين»! هناك أكثر من 700 أسيرة فلسطينية في سجون إسرائيل بعضهن محكوم عليهن بالسجن المؤبد عدة مرات، مثل أحلام عارف التميمي من رام الله، التي اعتقلت بتاريخ 14/9/2001 وتقضي حكما بالسجن المؤبد 16 مرة، والأسيرة سناء محمد شحادة من القدس، والأسيرة قاهرة سعيد السعدي من جنين، والأسيرة دعاء زياد الجيوسي من طولكرم، والأسيرة آمنة جواد من رام الله وكلهن يقضين أحكاما مؤبدة عدة مرات، والجرم هو دعم الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.

حين نطق الضابط الإسرائيلي بالحكم على أحلام عارف التميمي بالسجن المؤبد عدة مرات ضحكت أحلام بصوت عالٍ فانزعج الضابط وأضاف أحكاما مؤبدة أخرى فضحكت أحلام بصوت أعلى فزاد عدد أحكام المؤبد وسألها لماذا تضحكين؟ قالت له لأني أريد أن أعلم هل ستكون هنا بعد آلاف السنين حين أنفذ الحكم!!

وبسبب تواطؤ الإعلام والأنظمة الغربية مع الإرهاب الإسرائيلي الحكومي قام جنود الاحتلال باعتقال الأطفال الفلسطينيين حيث طالت حملاتهم أكثر من 90 طفلا خلال شهر واحد، أصغرهم الطفل خالد دعنا (13 عاما) الذي أصدرت المحكمة العسكرية قرارا بإبعاده عن أسرته.

وبالإضافة إلى اللقطة المهينة التي أظهرها شريط الفيديو فإن مؤسسات التضامن الدولي لحقوق الإنسان قد كشفت أكثر من مرة عن اقتحام وحدات صهيونية غرف الأسيرات في سجون الاحتلال وإخضاعهن للتفتيش العاري المذل وإجبارهن على رفع أيديهن من التاسعة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر، هل يعرف ذلك الساسة الغربيون الذين يتملقون مجرمي الحرب أمثال نتنياهو فيطلقون على إسرائيل «واحة الديمقراطية»!. كما قرأنا جميعا عن والدة الطفل نور وكيف ولدته في السجن وبقي أسيرا معها.

فلماذا لا ينشر الأميركيون الحرية وحقوق الإنسان في فلسطين بدلا من قيامهم بدعم وتمويل التعذيب والقتل والسجون والاستيطان؟ أم أنهم يعتبرون الإنسان الفلسطيني مثل الإنسان الهندي الأحمر أو مثل الأبورجنيز في أستراليا لا حقوق لديه ولا تعتبر حياته مساوية لحقوق البشر. إن صمت حكومات الولايات المتحدة وأوروبا عن هذه الجرائم الإسرائيلية المشينة بل ودعمهم المطلق للنظام العنصري في إسرائيل قد أطلق يد جيش الاحتلال والمستوطنين اليهود ليعيثوا فسادا وقتلا وتعذيبا ودهسا بالمدنيين الفلسطينيين العزل بحيث بلغت ممارساتهم حدودا فاقت مرات كثيرة ممارسات الأبارتيد الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا، بل إن جرائم إسرائيل فاقت الوحشية النازية وهذا ما أكده الناجي من النازية الذي كان في قارب إيرين الذي حاول فك الحصار عن غزة والذي قال: «إن ما تعرضت له خلال الهولوكوست يشبه إلى حد كبير ما يتعرض له الأطفال الفلسطينيون اليوم». وهذا ما أكدته أميرة هاس في جريدة «هآرتس»، (7 أكتوبر «تشرين الأول» 2010): «إن أحكام الاحتلال لا تحتاج إلى برهان أو شرح أو منطق، حيث إن عملهم يتلخص باختراع أنواع جديدة من العقاب والتعذيب للشعب الفلسطيني»، وتضيف هاس «اليوم اختفى الإحساس بالعار ودعم المجتمع مضمون»، وأنا أضيف اختفى الإحساس بالعار لأن صمت «الأسرة الدولية» مضمون، ولأن المؤكد أن أحدا من زعماء العالم «الحر» لم يعد حرا بل أصبح ضحية ابتزاز اللوبي الإسرائيلي المسيطر على الكونغرس والإعلام والمال الانتخابي، ولذلك لن يدين أي من الزعماء الأميركيين أو الأوروبيين، أو حتى الأمم المتحدة، أي جريمة قتل أو تعذيب أو قهر للفلسطينيين أو لأي أحد آخر طالما أن المعتدين هم إسرائيليون، بل حتى حين يكون المعتدى عليها الحائزة على جائزة نوبل للسلام، ميريد ماغوير، التي شاهدت أبناء أختها الثلاثة يقتلون وهم أطفال في آيرلندا الشمالية، لتصبح ناشطة سلام تروج للمقاومة السلمية في كل مكان، ولذلك منحت جائزة نوبل للسلام عام 1976. لقد وصلت ماغوير على سفينة تحمل اسم راشيل كوري (وهي الشابة الأميركية التي سحقتها البلدوزرات الإسرائيلية) لكسر الحصار عن غزة منذ عدة أشهر وتم ترحيلها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي مع بقية المتطوعين. ولكنها حين عادت منذ أيام إلى مطار بن غوريون سجنها الإسرائيليون في المطار كما سجن قبلها في المطار نفسه المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، والمفكر نورمان فينكلستاين، والفنان الإسباني إيفان برادو دون خجل أو خوف لأن حكام إسرائيل يعلمون علم اليقين أن الإعلام الغربي «الحر» مكبل بالابتزاز والمال الصهيوني، وكذلك هم الزعماء السياسيون فهم صم بكم عمي عندما يكون الإرهابي إسرائيليا والضحية عربيا، فالجميع لا يجرؤ على انتقاد نظام الفصل الإسرائيلي العنصري لئلا يتهم باللاسامية.

وذنب ميريد ماغوير الحقيقي هو أنها شاركت أهالي بلعين منذ عدة أشهر التظاهر ضد جدار الفصل العنصري، كما شاركت مرتين في سفن لكسر الحصار عن المدنيين في غزة.

وفي داخل الأراضي الفلسطينية مئات القصص المخزية بحق الإنسان وكرامته، فابن فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1948 ممنوع من رؤية أهله وأقربائه في الضفة. وبعض من سكان الضفة منفي إلى غزة وبعض من أهل غزة في الأردن ممنوعون من رؤية أحبائهم في الضفة.

ولكن ما وصل إليه هذا الكيان العنصري من ممارسات إجرامية سافرة بحق الأسرى والناشطين من أجل السلام والحرية والعدالة وحقوق الإنسان مرده إلى حد كبير صمت الدول «الديمقراطية». صحيح أن الأسرى والمعتقلين والناشطين الفلسطينيين يناضلون من أجل حرية الإنسان وكرامته في فلسطين ولكنهم يمثلون ضمير الأحرار في كل مكان في العالم فهل ندعهم في السجون الإسرائيلية الرهيبة كما تركنا نيلسون مانديلا عشرات السنين يرزح في سجون الأبارتيد لننتظر إطلاق سراحهم ومن ثم نحولهم إلى أيقونات للحرية والكرامة؟ أم نعمل منذ البارحة من أجل إطلاق سراح جميع الأسرى ومن أجل عيشهم أحرارا بكرامة في ديارهم وبين أهليهم؟! لا مصداقية لأي منظمة حقوق إنسان ولأي نظام يدعي الحرص على حرية الإنسان وحقوقه ما دام أحد عشر ألف فلسطيني يعانون ويلات اعتقال واحتلال مجرم بغيض، وما دام العالم يلتزم الصمت حتى حين يرى بأم عينه الجرائم البشعة التي ترتكب بحق هؤلاء في سجون الكيان النازية المهينة.