الجهاد على الطريقة الأوروبية

TT

لم يكن خافيا حتى على كريستوفر هيتشنز أن كلمة «الإسلام» تعني في أحد تجلياتها «السلام» وأن «السلام عليكم»، التي ابتدأ بها خطابه، تعني إشاعة السلم والأمن.. حينما قام هيتشنز وبدأ خطابه بالسلام خلال الجدل الذي أقيم في نيويورك ونقل مباشرة إلى أماكن مختلفة من الولايات المتحدة يوم الثلاثاء الماضي.

في الوقت الذي يؤكد فيه هيتشنز أن الدين لا يمكن أن يكون مسالما، فإنه يجد مشكلته مع الدين الإسلامي وحده.. فهو - أي هيتشنز - اليساري القادم من الخلفية الشيوعية ليلحق بركب المحافظين الجدد ويناهض الإسلام في أميركا ويدعم تدخلات أميركا في العالم، داعيا في لقائه ذاك إلى دولة خالية من الإله «godless»، فهو ملحد؛ بل ويمكن أن تقول إنه على الديانة الإلحادية حينما يتخذ «الإلحاد» كبديل ديني وعقيدة لا كخيار شخصي فقط. وفي العموم، كل هذه الصفات مجتمعة لا يمكن أن توجد إلا في هيتشنز.

في المقابل وفي الزاوية الأخرى من الجدل، كان طارق رمضان السويسري بالجنسية، الفرنسي باللغة، الإنجليزي بالتعليم، والمسلم بالثقافة، حديث العهد برفع الحظر عنه في أميركا، الذي استفتح نظريته حيال السلم في الإسلام بأن الدين الإسلامي غني بالاختلاف والتنوع والتفسير، وهو يرى أن هيتشنز وآخرين كثر يستطيعون أن يفهموا الطبيعة المركبة للفلسفة والثقافة والعلم والمعرفة.. ولكنهم بسرعة يخفقون في ذلك حينما يتعلق الأمر بالدين، فهم يرونه بسيطا ساذجا. وفي السياق ذاته: «يفهمون قدر التركيب والاختلاف في الفلسفات المختلفة، ويفشلون في فعل ذلك مع الأديان عموما والإسلام على وجه الخصوص».

طارق رمضان في ذلك الحوار قدم «إسلاما أوروبيا» يعيش فيه المسلمون في أوروبا يحملون هويات متعددة في عصر التعددية.. فهم مسلمون بالديانة وأوروبيون بالثقافة حينما يتحدثون اللغات الأوروبية ويتعايشون مع المختلفات ويشاركون في بناء المجتمع للأفضل.. وهو في كل هذا يؤكد أن الإسلام نفسه كان داعما للأمن والتنمية والديمقراطية والعيش الرغيد.

لقد فجر رمضان قنبلته حينما صرخ في الحضور.. بأن الإسلام يدعو للجهاد، ثم أردف بأن الجهاد يعني الكفاح لمغالبة ومحاربة الشياطين الخلقية داخل الإنسان نفسه.. تلك الشياطين التي تدفعه للحرب.. يجاهدها لكي يلتزم السلم والأمن، فالجهاد دعوة للسلم والأمن والتعايش والمناضلة من أجل ذلك، وليس شيئا آخر.. حينها تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».. ففي هذا الحديث تكون المصارعة والقتال ليست صفة الأقوياء.. فالأكثر قوة هم الذين يملكون أنفسهم عن فعل هذه المصارعة والمقاتلة.

طارق رمضان.. حفيد حسن البنا وابن سعيد رمضان، خرج من دراساته الشرعية وعلومه وثقافته الأوروبية ولغاته المتعددة التي يتقنها، بنتيجة قادته للإسلام الأوروبي الذي يعيش ويتعايش مع المجتمع الأوروبي، ويحفظ هوياته المتعددة داخله، ويجاهد ضد الحروب، ويؤمن بأن العلمانية بصيغتها السياسية لا تشكل أي خطر على هذا الإيمان والدين الذي يحمله.

في الوقت الذي يشكل فيه رمضان رقما مهمّا للمسلمين المهاجرين في أوروبا وأميركا وحلا وسطيا يرضي عقولهم وقلوبهم، يجد فيه كثير من المهتمين بالشريعة في العالم الإسلامي إشكالية فكرية حين يستخدم رمضان النصوص والآيات ذاتها لنتيجة مختلفة، ضاربا عرض الحائط بمفاهيم نالها الاستقرار ولو فترة من الزمن. إشكالية «النص» و«القارئ» هي المقدمة الرئيسية التي يتذرع بها هذا الخطاب الإسلامي الأوروبي الداعي لإسلام ينسجم معه المسلمون في المهجر الأوروبي والأميركي ويجدون فيه خطا ثالثا تقدمه شخصيات من خلال السياق الإسلامي نفسه ومن خلفياته المعرفية ذاتها.

في موقف آخر، يلاحظ هيتشنز مجددا أن هذا الخطاب الإسلامي الأوروبي يحاول التلصص على بعض مفردات ومفاهيم ما بعد الحداثة مثل «الخطاب» و«الفضاء» المعرفيين، غير أنه يستخدمها من أجل هذه الصناعة الأوروبية للإسلام وليس من أجل التنوير غير المؤمن، فهذا الإسلام - كما يحس هيتشنز - يقود حملة مشابهة للعقيدة الشمولية في النظام الشيوعي الذي يبيد الأنظمة من أجل نفسه، وهذا السبب نفسه هو الذي دعا هيتشنز في حملته مع المحافظين الجدد إلى مقولة «وجه الإسلام الفاشي».. فهذا الإسلام ذو الطابع الشمولي والفاشي يريد تدمير كل الأشياء كي يبقى يردد «الله أكبر»، بحسب هيتشنز.

لقد بدا هيتشنز الذي يدعو لدولة خالية من الأديان سخيفا وشموليا حينما أراد إلغاء الأديان من أجل دينه الخاص «الإلحاد»، وبدا أقل رغبة في التعددية والديمقراطية، وأكثر قربا للنظام الشمولي الدكتاتوري الذي كان يتحدث عنه. فهو لا يدعو لوجود غير المؤمنين والمؤمنين من أجل التعارف والتفاهم والحوار؛ بل يدعو لإزالة هذه الأديان والإسلام، خاصة، من الدولة.. وهذا بالتحديد ما كانت تنادي به الأنظمة الشمولية والشيوعية التي أبادت الملايين لأجل خيارها في الإيمان والعبادة.

وفي المقابل، كان خطاب رمضان، بقدر ما تختلف أو تتفق معه، خطابا يدعو لوجود الجميع وللتعددية التي كانت عنوان أحد كتبه «سؤال المعنى: تطوير فلسفة التعددية».

في كل حوار ولقاء حول الإسلام الأوروبي ومكان الإسلام في أوروبا، يعرف القارئ العادي ورجل الشارع والسياسي والمثقف.. جهاد «القاعدة».. الأكثر صخبا وجنونا، ولا يعترف ولا يقر بصوت آخر معتدل داخل النسيج الاجتماعي في أوروبا وأوسع شعبية بين المسلمين أنفسهم؛ صوت أكثر انسجاما مع الثقافة الأوروبية، يدعو لجهاد آخر مختلف.. جهاد مدني من أجل السلم والعدالة والتعددية والديمقراطية.

* كاتب سعودي