الظاهرة العيسوية في الصحافة المصرية

TT

الدولة رئيس تحرير غير ناجح.

روى الصحافي اللبناني الراحل ميشال أبو جودة، عن ملابسات احتجازه في سورية الثمانينات. قال إن العماد حكمة الشهابي رئيس الأركان السوري آنذاك، هوى بكفه، من فوق إلى تحت، لتستقر قبضته على مكتبه، وهو يوبخ رئيس تحرير «النهار» والمعلِّق السياسي الأول في لبنان: «نحن بدنا صحافة في لبنان، كصحيفة (تشرين) عندنا»!

مات أبو جودة. تقاعد الشهابي. جاء ربيع بشار (1999). دُعيت أنا إلى الكتابة في «تشرين». اخترت زاوية بحجم طابع بريد تذكاري، لا تتجاوز 150 كلمة. كنت حذرا بعد غيبة 37 سنة. فمن أصل 56 سنة في المهنة، عملت فقط عشر سنوات في صحافة بلدي (سورية).

كان حذري في محله. فعندما كنت أتحدث عن الراحلة فايزة أحمد، تسمح الدولة لها بالنشر والانتشار. عندما أطالب بتحرير الصحافة من احتكار وكالة «سانا» للأخبار، كي لا تصدر الصحف طوابع بريد متشابهة، كانت الدولة تمارس مهمة رئيس التحرير. فتشطب الزاوية.

غاب الربيع باكرا. آثرتُ الغياب معه. بعد عشر سنوات، ما زالت الدولة عند رأي «رئيس التحرير» العسكري الشهابي. فوزير الإعلام يعتبر الصحافة السورية أفضل صحافة عربية، من حيث حرية التعبير.

عملت في الإعلام المصري الخارجي عشر سنوات. استقلتُ عندما جاء السادات. عندما رحل، كانت مصر. ساستها. أحزابها. صحافتها... في زنزانة النظام. أفرج مبارك عن مصر. إذا كان لكل نظام حسنات وسوءات، فحرية الصحافة المصرية إحدى فضائل نظام مبارك.

أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز قارئ ومعلق ممتاز. وهو نصير كبير للصحافة. لكن له رأي صريح فيها: «إنها صداقة (الصحافيين) متعبة ومكلفة. وكثيرا ما أُبتلى بمشكلاتها». لو لم يكن مبارك نصيرا أيضا للصحافة، لما تمتعت الصحافة المصرية بحرية لم تعرفها، حتى في عهد الليبرالية الملكية. مبارك أيضا كلفه إيمانه بحرية الصحافة متاعب كثيرة معها.

أعتقد أن رئيس التحرير هو الرقيب الأول. رئيس التحرير الذي يجيد قراءة الموقف السياسي، يحسن ممارسة الرقابة الذاتية. الرقابة التي تجنب صحيفته المتاعب مع الدولة. مع النظام. مع المجتمع. بل مع الحرية. فالحرية، في النهاية، مسؤولية كبيرة.

مشكلة نظام مبارك مع صحافة المعارضة، هي في ضمور الرقابة الذاتية. صحافة المعارضة غدت طويلة اللسان. ليست هناك قراءة جيدة للموقف السياسي: ظروف صدام النظام مع تنظيمات الجهاد التكفيري والانتحاري. كسب النظام المعركة. ضمن لمصر الأمن والاستقرار، من دون أن يضحي بحرية الصحافة.

أين صحافة المعارضة المصرية من ظروف العرب اليوم؟! الانقضاض الفارسي الذي مزق العرب؟ نجاد الذي يصول ويجول في لبنان غدا؟ حزبه اللبناني الذي يهدد بالانقلاب على الديمقراطية؟ «زلمته» العراقي الذي يرشحه للتحول إلى «صدّام» جديد، بالإصرار على «تطويبه» حاكما خمس سنوات أخرى؟

أين صحافة المعارضة من حكومة إسرائيلية تواصل الاستيطان؟ الكنيست يهوِّد الدولة. يتجاهل ميثاق «الاستقلال» الذي نصَّ، نظريا، على مساواة مدينة كاملة «للأقلية» العربية. أين الصحافة المعارضة، من بوش المتعهد لليهود، بعدم معارضة الاستيطان؟ ومن أوباما (صديق المسلمين) المستعد للتعهد لليهود بالبقاء (الأبدي) في غَوْرِ الأردن. من أجل أن يجمد نتنياهو الاستيطان شهرين فقط؟!

في هذه الظروف السلبية، تفتح صحيفة «الدستور» المعارضة. تجد رئيسا للتحرير مشتبكا في حرب شخصية «أبدية» مع النظام، منذ سنوات غير قليلة. بل هو يستغل حرية الصحافة لتناول رأس النظام باتهامات. ومبالغات. بلا أدلة!

رئيس التحرير الذي يمسك بتلابيب قضية واحدة، يخسر مصداقيته أمام القارئ. يغدو ظلا ثقيلا عليه. يفقد مهمته كمراقب سياسي. كرقيب ذاتي. طول اللسان المتشنج، في غيبة المنطق، يبتذل حرية الصحافة. كان مأخذي الوحيد على الصحافيين والإعلاميين الذين ذهبوا ضحية الاغتيالات المروعة، بعد اغتيال رفيق الحريري، هو إمساكهم بقضية واحدة: اتهام سورية. لم أكن مدافعا عن النظام. إنما كنت ضد النيل من عروبة سورية.

اليوم، لا أدافع عن نظام مبارك. للنظام دائما صحافته وقواه التي تدافع عنه. إنما خوفي على حرية الصحافة المصرية. حرية المعارضة في النقد. حرية الصحافي المستقل في تناول الطيف السياسي والاجتماعي، من دون تركيز هستيري على قضية واحدة، أو شخص واحد.

إبراهيم عيسى (45 سنة) ظاهرة سلبية في الصحافة المصرية. صحافي جديد على المهنة، قياسا بعمر حسنين هيكل الصحافي (65 سنة صحافة). حتى هيكل المعارض اللدود لنظام مبارك. ينصح. يقول إن رئيس الدولة هو رمز الدولة والوطن. هناك أدب السياسة والمهنة في التعامل مع الرؤساء، وفي احترام كبريائهم.

أتحدث، من جانب تقني وفني بحت، وليس من جانب سياسي. هستيريا الاتهام التي انتابت إبراهيم عيسى أدت في النهاية إلى خسارته موقعه الصحافي. لم يقدّر مغبة الإنهاك المالي الذي تسبب به لصحيفته. فعرَّضها للبيع، ولفقدها استقلاليتها. لم يعترف بالمسؤولية عن ضياع مستقبل الصحافيين العاملين معه. راح يحمل «رجال المال والأعمال» المسؤولية. عفا مبارك عن إبراهيم عيسى. أنقذه من حكم قضائي بسجنه. لكن إبراهيم عيسى لم يَعْفُ. أصر على الاستمرار في لَوْكِ «القضية الواحدة».

نجومية رئيس التحرير ليست كافية لنجاح الصحيفة وحمايتها. ارتكب مصطفى أمين خطأ كبيرا، عندما أصدر في عام 1944 «أخبار اليوم» لهدم «الوفد» وزعيمة مصطفى النحاس. تبنى الصحافي الكبير «القضية الواحدة» و«الشخص الواحد». غير أن رشاقة قلمه. وجمالية العرض عنده. واستعانته بكبار الصحافيين والأدباء... كل ذلك غطّى على خطئه الشخصي، إلى درجة أنه بات كارها لإصدار صحف أخرى: «صرت مؤمنا بتحديد النسل». فأين إبراهيم عيسى الذي يمزج العامية بالفصحى، من فن مصطفى أمين؟

كيف السبيل إلى حماية حرية الصحافة والصحافيين؟ كيف السبيل إلى إلغاء عقوبة سجن الصحافي؟ قلت إن الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحافي، ورئيس التحرير بصفة خاصة، تجنِّب الصحافة والصحيفة والعاملين فيها، متاعب كثيرة.

إذا لم تكن الرقابة الذاتية كافية. ولا نصحُ نقابة الصحافة، فبالإمكان الاقتداء، ببريطانيا مثلا، بإنشاء مجلس أعلى للصحافة، برئاسة قاض أو رجل قانون متقاعد. مشهود له بالنزاهة. يتولى المجلس الذي يضم حكماء مماثلين، وممثلين عن الحكومة ونقابة الصحافة، مهمة النصح. أو التوبيخ. أو الإدانة العلنية، عندما يعتبر أن صحيفة، أو صحافيا، خالف أمانة الضمير مع المهنة. مع القارئ. مع الحرية.

من المؤسف أن الظاهرة العيسوية تتفشى في الصحافة العربية. في المغرب. في المشرق. في الخليج. هناك صحافيون يتباكون على حرية الصحافة. لأنهم لا يعرفون كيف يمارسون صونها وحمايتها.