الدرس الهندي!

TT

إذا كانت حمى الصعود الاقتصادي ومعدلات النمو القياسية من نصيب الصين، خصوصا بعد تفوقها واحتلالها للمرتبة الثانية في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية، وتخطيها لليابان، فإن «القصة» القادمة حتما ستكون من نصيب الهند، كما يتوقع ذلك كثيرون. ولذلك أسبابه المنطقية. الهند يتوقع أن تبلغ معدلات نموها هذا العام نسبة الـ8.5%، ولا يزال مشوارها طويلا؛ لأن حجم الاقتصاد الصيني حاليا يعادل أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الهندي، ولكن معدلات نمو الهند المتسارعة جدا ترشح أن تجعل معدلات نموها تتخطى معدلات النمو الصينية في عام 2013. والهند من المتوقع أن يستمر نموها ويكون الأعلى بين كافة الاقتصادات الكبيرة لمدة الخمسة والعشرين عاما المقبلة، والأسباب التي تمكن الهند من تحقيق ذلك كثيرة، ولعل أهمها تركيبة الهند السكانية المتغيرة مقارنة بالصين؛ فالهند لديها قاعدة من الشباب وصغار السن تمكنها من تكوين سوق عمالية واستهلاكية واعدة جدا، على عكس الصين التي بدأت الآن في دفع ثمن سياستها القاسية جدا والمتعلقة بتحديد النسل، وهي لا تسمح بأكثر من طفل واحد لكل أسرة، وهذه ميزة تنافسية لدى الهند لا يمكن إنكارها.

الاقتصاد الصيني تدفعه الدولة والحكومة المركزية فيها، بينما تعتمد الهند على قطاع خاص ديناميكي وواعد جدا.. شركات تمكنت من إنتاج سيارة بألفي دولار، وأرخص عمليات قلب مفتوح في العالم، وفلاتر لشرب الماء بأقل من نصف دولار، وجسور بعشر التكلفة، ولديهم الآن نموذج مصنع لكومبيوتر محمول بـ35 دولارا! وهي أيضا الشركات التي تمكنت من تكوين أكبر شركات الصلب في العالم، وشركات السيارات التي تمكنت من الاستحواذ على سيارات «الجاكوار» و«اللاندروفر» والفنادق العريقة.

والجو الديمقراطي في الهند مكن الأفكار من التحرك بحرية وسلاسة وحماية، وهو جو مغاير لما هو موجود في الصين تماما؛ حيث تسود القرصنة والسرية، وهو ما أخاف شركات التقنية العالمية. وتبقى أكبر عقبة في تألق الهند المتوقع رداءة وتخلف البنى التحتية لها، نتاج التخطيط الرديء والتخبط البيروقراطي، الذي عطل مشاريع دورة ألعاب الكومنولث الأخيرة وأظهرها بشكل سيئ (مقابل الإنجاز الباهر للألعاب الأولمبية الأخيرة في بكين بالصين). هذه وغيرها من الأسباب جعلت شخصية مؤثرة ونافذة مثل ارونداتي روي، الناشطة السياسية المعروفة والكاتبة الحائزة جائزة بوكر، تنتقد حكومتها وتسخر من إحصائيات التنمية فيها، ولا تعترف بأن الهند سوق ناشئة ونمر واعد أو قوة اقتصادية مقبلة، وتحلل - بالمضاد - أرقاما مفزعة؛ فهي تقول إن 100 بليونير في الهند لديهم أصول تساوي 25% من الناتج القومي، وإن هناك 830 مليون نسمة يعيشون على أقل من 20 روبية في اليوم الواحد، وهي - بالنسبة لها - فجوة مهولة وغير إنسانية. وهذا الرأي الذي تقدمه روي ليس غريبا، فهناك كثير من الآراء المماثلة المقدمة في العالم الثالث التي تركز على جانب واحد في الصورة الاقتصادية، فتقدم أرقاما متدنية للبطالة وللتضخم تعتمد فيها على قراءات ناقصة ومغالطات ومقارنات غير دقيقة لمعرفة حجم البطالة والتضخم.

البطالة واقعها يمكن أن يقاس على شريحة واحدة فقط، وعلى فئة عمرية واحدة فقط، فيظهر الرقم «منخفضا»، ولكنه وهمي، كذلك الأمر بالنسبة للتضخم، فيتم اختبار سلعة غير استراتيجية أو مدعومة، ويتم قياس معدلاتها فتظهر الصورة ولكنها غير كاملة.

هناك «فرحة» و«ترحيب» ببعض المعدلات والمؤشرات المقدمة، ولكنها لا تنعكس في جيب المواطن وفي تطوير مستوى معيشته وتحقيق الكرامة فيها، وسيظل مجرد سرد البيانات والإحصاءات مثارا للقلق والتشكيك. الدرس الهندي المقدم اليوم يظهر الصراع بين رأسمالية مسعورة دون مسؤولية اجتماعية، تسير في اتجاهين متناقضين؛ ثراء محدود لفئة محدودة، وفقر واسع لفئة تزداد. إنه سيناريو حزين! والدرس الهندي عام وليس خاصا، ومعروف ومعايش في دول العالم الثالث بامتياز.

[email protected]