قائمة لا قادمة

TT

يتحدث اللبنانيون، على مدى الساعة، عن فتنة قادمة، والحقيقة أنها فتنة قائمة. ويحذرون من انفجار حرب أهلية آتية، فيما الحرب الأهلية تنهش الأفئدة والعقول وتقض المضاجع. وأكثر ما يخيف في هذه الصورة المحزنة أن فَعَلَة الحرب لم يتغيروا. فقط صلعوا قليلا أو شابوا كثيرا. لكن أيديهم التي أوغلت في دماء الناس، والتي قنصتهم عند المفارق، والتي شردتهم في البحر والبر والجو، لم يتغير فيها شيء.

ما يخيف، هو أنه يتم تكليف الفَعَلَة أنفسهم، إدارة حرب أخرى. وما يخيف أكثر، هو أنهم يعثرون دائما، وفي كل زاوية، على سذج أو أغبياء أو مجرمين جدد. الحروب الأهلية في لبنان مجرد مقاولة أخرى. والجريمة السياسية تورث مع الجريمة المالية وجريمة الفساد وجريمة الخيانة.

الإصغاء إلى المقابلات السياسية على تلفزيونات لبنان يظهر عرضا يوميا فائق الفجور، لظاهرة الخيانة الوطنية وغياب الخلق والضمير. وبعض السياسيين، أو الكثيرون منهم، مكلّفون بوضوح لا يرد، تدمير كل أنواع البناء والمؤسسات والنفوس الوطنية. ولذلك تتحول أي أزمة في لبنان إلى جروح أيوب التي تفتح ولا تلتئم. وفي قلبها ودمائها يسرحون ويمرحون.

ربما جنابكم تعرفون، أما أنا فإني لا أعرف بلدا آخر يتلاقى عليه أعداؤه وخصومه وأصدقاؤه وأبناؤه، كما يتلاقون على امتصاص دماء لبنان. عندما قامت الحرب الأهلية العام 1975، كان شعارها التغيير والانتقال إلى وطن سوي ومواطن حقيقي والخلاص من طاقم سياسي فاسد ومفسد. وكانت النتيجة تقاسم الوطن الجديد بين أصحاب المدافع الجديدة. وتحول النفوذ الخارجي من تدخلات خفية إلى صراع مُشرَع. وعندما تيسر للوردات الحرب أمر السلطة كشفوا عن خطابهم الأخلاقي المتدني وهشاشة إرادتهم الوطنية والأوبئة النفسية التي تحرك أحقادهم وسلوكهم.

لم أشعر لحظة واحدة بالاطمئنان أو بالتفاؤل. فما دامت الناس قد فقدت الشعور البديهي بالمقاييس والمعايير والتمييز، لا يمكن أن نتوقع وصفا أفضل. عندما انتهت الحرب قيل لنا أن لا أحد يستطيع أن يصنع السلم الأهلي سوى لورداتها. لكن الذين ولدوا من رحم الحرب الأهلية خرجوا إلى النور وهم يعتقدون أن لا شيء على الأرض سوى الحرب الأهلية. برضا سام أو نار جهنمية.