تقرير من هامبورغ

TT

بدا الموضوع كله تلخيصا لعالم بأكمله من التغييرات الكبرى التي تتدافع أمام أعيننا حتى لا نعرف لها آخرا، أما أولها فقد ذهب بعيدا بعد أن تعاقبت عليه أحوال لم تبقِ أمرا على حاله. وفي يوم من الأيام كانت هناك سوق عكاظ الشهيرة في تاريخ العرب حينما كان شعراء الضاد يتوافدون عند الكعبة لكي يتباروا فيمن كان «أشعرهم» أي أحلاهم شعرا؛ فمن كان صارت أبياته من المعلقات التي تبقي الشاعر في التاريخ ما شاء للدهر أن يكون. ولكن عصرنا بات يعرف أسواق عكاظ أخرى، ليست للشعر هذه المرة، وإنما لأمور شتى، شاء القدر أن يشهد الأسبوع الماضي واحدة منها في مدينة هامبورغ الألمانية حينما انعقد المؤتمر السنوي السابع عشر للرابطة العالمية للصحف، حيث عرضت أحدث المطابع ومعها آخر ما عرفه العالم من تكنولوجيا النشر والتوزيع ومعهم بالطبع كانت هناك طاقة كبيرة لمناقشة قضايا العصر الجديد مست الأوتار بين القديم والجديد مع البحث عن إجابات لأسئلة أخرى مطروحة رغم أن أحدهم رفع شعارا لشركة «غوغل» العالمية جاء فيه أنه «حتى في (غوغل) توجد بعض الأسئلة لا تستطيع الإجابة عليها». والمعنى دعائي بالطبع، حيث يشير إلى أن الشركة الشهيرة تجيب على كل شيء اللهم إلا «بعض» الأسئلة.

ولكن ذلك كان جزءا من الصورة فقط، حيث تبارت شركات «غوغل» و«أبل» و«فيس بوك» - أو ما يعرف بالشبكات الاجتماعية - في التحدث عن دنيا جديدة تماما يكون لها أنواع جديدة من التكنولوجيا والكتاب والقراء أيضا. ولسبب أو لآخر عدت في كلمتي بالمؤتمر إلى أن «الكلمة» كانت هي البداية، ومنها ظهرت الكتب المقدسة، ومن بعدها ظهرت كتب أخرى لم تكن كلها مقدسة حتى صار الأمر كتبا وكفى، خاصة بعد أن ظهرت عصور الطباعة، وكلما تعقدت أمورها ظهرت «الكلمة» في شكل جديد أخذ شكل الصحيفة مرة، ثم ظهر في المجلات تارات أخرى، فإذا ما زاد تعقيد الكلمة ظهرت في أشكال صوتية (الإذاعة) - ثم مرئية (التلفزيون) بأشكاله المختلفة - التي تقدمت حتى وصلت إلى البعد الثالث. وبينما كان المطبوع يتطور على طريقته الخاصة، والمسموع والمشاهد على سبله المتعددة، ظهر العالم الرقمي إلى الوجود مع اختراع الكومبيوتر وتطبيقاته المتعددة في التليفون والنسخ والإنترنت حتى وصلنا إلى معجزة «الآي باد». وفي كل هذه العصور الممتدة منذ بدأ الإنسان في التعبير عن نفسه بالحفر على الحجر حتى وصل إلى تكنولوجيا اللمس على الشاشة - الأقل مجهودا بكثير - فإنه مر بهذه النوعيات المتعددة من المناقشات والمحاورات حول العلاقة بين القديم والجديد. وفي الأزمان الماضية كان الجديد معبرا عن نوع آخر من السحر حتى يثبت العكس وينضم إلى دائرة المعارف العامة؛ أما في الأزمنة الحديثة فإن القضية كلها صارت نوعا من المصالح الهائلة. وفي أثناء المؤتمر كانت علامات عدم التصديق سائدة على كل الوجوه التي عاشت لسنوات طويلة على الصحافة المطبوعة. وفي بعض الأحيان وجد المتحدثون باسم هذه العصور «البائدة» نوعا من المرفأ في الحديث عن الصحافة «المحترمة» أو ذات العمق، وكأن غيرها لا يوجد فيها إلا كل ما هو مبتذل.

المدهش في الموضوع أنه على كثرة ما قيل فإن «المضمون» أو «المحتوى» أو «الرسالة» لم تلق كثيرا من الاهتمام وكأن الناس تكتب أو تنشر لمجرد رص البيانات من دون إدراك أن الأمر كله صناعة تتحول فيها البيانات إلى معلومات تجعل لها معنى، ثم تتحول هذه المعلومات إلى معرفة تحدد لها اتجاها. أما المعارف فهي بدورها تولد الحكمة التي تعطي الإنسان فضيلة القرار والتدبير. وما المسألة - على كثرة أشكال التعبير عنها - في النهاية سوى وسائل لطرح الحكمة على المجتمع. ولكن ذلك لم يلق بالا كثيرا رغم ما كان سائدا من إنصات، فقد كان الأهم هو كيف تتجاوز أخبار الأمس التي لم تعد لها أهمية بعد أن تجاوزتها أخبار أخرى جاءت توا ولحظة ولم يعد لما سبقها مكان ومن ثم وجب التخلص منها بسرعة مخيفة.

ولكن ما أثار الخوف كله هو مصير الصحافة المطبوعة التي تصدر بشكل دوري قدره 24 ساعة، أو خلال بضع ساعات إذا ما كانت هناك أكثر من طبعة، وحتى في هذه الحالة على تكلفتها فإن بضع ساعات باتت فترة طويلة إذا كان على الصحيفة أن تواجه النشرات الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون، أو نشرات الأنباء القصيرة التي يجري إرسالها مصورة أو غير مصورة على شبكات التليفون الجوال. وحتى إذا تصورت الصحيفة أن مكانها هو إصدار التحليلات المعمقة فإنه لم يعد هناك ما يمنع من صدور هذه التحليلات ذاتها على أشكال وتطبيقات أخرى لا تحتاج ورقا ولا طباعة ولا تلويثا للبيئة.

ما بدا في النهاية تطورا حتميا لا بد منه فهو انتقال الصحافة كلها إلى المجال الإعلامي حيث تتكامل الوسائل كلها في صناعة واحدة تقدم البيانات والمعلومات والمعرفة والحكمة أو الرسالة في وجبات متنوعة تتأقلم مع حالة المستهلك أو العميل أو القارئ أو المشاهد أيا كان موضعه أو مزاجه الشخصي والشريحة العمرية التي ينتمي إليها. وإذا كانت الصناعة الآن تشهد ما يعرف بعالم الدوائر المتكاملة فإن الصحف أو الإعلام في عمومه لم يعد في إمكانه الانغلاق في دائرة واحدة وإلا حكم على نفسه بالإعدام المبكر. والمعضلة الأولى والأكبر في ذلك ذات طبيعة بشرية، حيث يحتاج الأمر قدرا هائلا من التطوير والتدريب للتعامل مع نوعيات جديدة من العمل. وإذا كان العسكريون قد عملوا على إنتاج «الجندي الكامل» أي ذلك الذي يستطيع تحريك الدبابات والطائرات وأشكال مختلفة من المتفجرات وتحديد المواقع لفرق وجيوش؛ فإنه لم يعد هناك بد من إنتاج الصحافي الكامل الذي يعرف كيف يستخدم الكاميرا والكومبيوتر وكتابة القصة الصحافية ويقدر على إرسالها مكتوبة ومصورة في آن واحد. مثل هذا الصحافي بات موجودا على نطاقات ضيقة، وعلى الأغلب في الدول المتقدمة صناعيا، تماما كما هو الحال مع «الجندي الكامل»، ولكن الحصول عليه في الدول النامية فهو من الأمور النادرة اللهم إلا إذا تم التغلب على معضلة أخرى وهي الاستعداد لإنفاق أموال طائلة على التدريب وعلى التكنولوجيا. ولكن المؤكد أنه لا يوجد طريق آخر، أو هكذا كانت الرسالة التي تم الحصول عليها في هامبورغ، حيث بدا أن الفجوة بين التقدم والتخلف لا تزداد اتساعا فقط، ولكنها أيضا غير قابلة للإغلاق.