لماذا لا نستسلم لنتنياهو؟

TT

الذين راهنوا على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جاد في سعيه لتحقيق سلام، عليهم أن يراجعوا أنفسهم. فالرجل مخادع ومناور من الطراز الأول، وهو في الواقع لا يريد تسوية تحقق سلاما حقيقيا وتقود إلى دولة فلسطينية قابلة للحياة، بل يطلب استسلاما فلسطينيا كاملا، ورضوخا عربيا تاما، لكل شروطه التعجيزية، ومناوراته الاستفزازية. آخر تقليعاته «التفاوضية» ما طرحه أول من أمس، عندما عرض تمديد تجميد البناء الاستيطاني مقابل اعتراف الفلسطينيين «بإسرائيل وطنا للشعب اليهودي»، وهو ما رد عليه الفلسطينيون بالرفض القاطع والسريع، لأن قبول هذا العرض يعني إقرارا بشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتضحية بعرب إسرائيل الذين لا يخفي عتاة المتطرفين في اليمين الإسرائيلي رغبتهم في طردهم يوما ما.

عرض نتنياهو، أو خنجره المسموم بالأحرى، جاء بعد يومين من إقرار حكومته بغالبية كبيرة لما يسمى بـ«قانون الولاء» الذي سيطبق على المتقدمين للجنسية من غير اليهود لإلزامهم بقسم إعلان الولاء لإسرائيل «دولة يهودية ديمقراطية». وهذا القانون الذي وصفه كثيرون بالعنصرية، لم يواجه فقط بالانتقادات العربية، بل تعرض للهجوم من العقلاء داخل إسرائيل ذاتها. فقد خرج إسحق هيرتزوغ وزير العمل والرفاه الإسرائيلي من الاجتماع الحكومي الذي أقر «قانون الولاء» ليقول إن إسرائيل بهذا القانون تدخل نفقا مظلما تنحدر فيه نحو الفاشية. كما هاجمه عدد من الكتاب في الصحف العبرية الذين رأوا فيه خطوة عنصرية لا تتماشى حتى مع طرح الديمقراطية الذي يتضمنه القسم، كما تثير المشكلات لإسرائيل في الداخل والخارج.

ولأن نتنياهو يخادع ويتحدث بأكثر من لسان لإرضاء قاعدته اليمينية المتطرفة في الداخل ولإخفاء وجهه الحقيقي عندما يخاطب العالم الخارجي، فإن من يرد أن يفهم نواياه الحقيقية من المفاوضات ومن الإصرار على الحصول على اعتراف عربي بإسرائيل دولة يهودية، عليه أن يعود إلى تصريحات وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان الذي لا يحتاج إلى تعريف فيما يتعلق بعنصريته أو ببرنامجه الصريح لطرد العرب من إسرائيل. فالرجلان يتبادلان الأدوار للعب على العالم وإصابة إدارة أوباما بالدوار، إذ يخرج ليبرمان ليلقي خطابا متطرفا مسموما أمام الأمم المتحدة، وما إن ينتقد العالم الخطاب وتوبخ مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة سوزان رايس الوزير الإسرائيلي على خطابه غير الحكيم الذي يهدد المفاوضات مع الفلسطينيين، حتى يصدر «مكتب» نتنياهو توضيحا يعلن فيه أنه يتبرأ من الخطاب الذي يعتبره موقفا شخصيا، لا سياسة حكومية. ولكن بعد أن تهدأ الضجة نجد نتنياهو يطرح على حكومته ذات المواقف التي أعلنها وزير خارجيته.

لعبة تبادل الأدوار تتضح تماما عندما يستعيد المرء تصريحات ليبرمان التي أدلى بها الشهر الماضي وشن فيها هجوما عنيفا على الفلسطينيين وعلى المواقف العربية قائلا: «إن المعارضة الشديدة من الجامعة العربية والسلطة الفلسطينية للاعتراف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي، تلزمنا بوضع قضية عرب إسرائيل كإحدى القضايا المحورية في المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية». وهذا هو بالضبط ما يقوم به نتنياهو الآن من تمرير قانون الولاء ثم مقايضة الفلسطينيين للاعتراف بيهودية إسرائيل مقابل الحصول على تجميد جديد للبناء الاستيطاني. لكن المتذاكي نتنياهو لا يقول لنا كيف يريد مقايضة الاستيطان وهو أساسا غير شرعي وغير معترف به من العالم كله وفقا للقرارات الدولية، باعتراف انتحاري للفلسطينيين بمطلب يهودية إسرائيل.

ما يطرحه نتنياهو وينفذه بقوانينه الجديدة هو إعلان إسرائيل دولة عرقية، دينية، قومية وعنصرية، ومطالبة الكل بالاعتراف بهذا الواقع الذي ينسف كل الأسس الأخلاقية التي رفض بها العالم النازية والفاشية، وحاربهما بالسلاح وخلص خلال ذلك اليهود من أبشع الممارسات التي وقعت بحقهم في أوروبا. كما أن نتنياهو يشرع الباب أمام المزيد من القوانين والتشريعات التي ترسخ مفاهيمه ومفاهيم حلفائه من المتطرفين أمثال ليبرمان. فحتى قبل أن تهدأ الضجة حول قانون الولاء، أقرت لجنة وزارية مشروع قانون يفرض إجراء استفتاء قبل أي انسحاب محتمل من القدس الشرقية أو هضبة الجولان. كما أن هناك سلسلة من التشريعات التي يطالب بها مؤيدو «قانون الولاء» مثل استهداف السكان الفلسطينيين الذين يحيون ذكرى النكبة، ومنع سكن الفلسطينيين على تخوم بلدات يهودية، وتعريف دور الجيش الإسرائيلي في الدفاع عن اليهود.

لقد سار العرب في خيار السلام وقبلوا مبدأ الاعتراف بدولة إسرائيل ضمن سلام عادل وشامل، لكن ليس هناك عاقل يمكن أن يصدق أنهم سيستسلمون لمطلب نتنياهو في الاعتراف بيهودية الدولة، بما يلغي قضية اللاجئين الفلسطينيين ويهدد عرب 48 ويجعل مفاوضات السلام مسألة عبثية. وربما بات على الفلسطينيين الآن مراجعة موقفهم لأن تشتتهم وتناحرهم أضعف موقفهم إلى الحد الذي جعل نتنياهو يتعامل معهم من موقع الإملاء وليس التفاوض. وحركة حماس مسؤولة عن ذلك مثلها مثل السلطة الفلسطينية، لأن كل طرف منهما يلعب ورقة المفاوضات، رفضا أو قبولا، لضرب الآخر، وبذلك يضعفان موقفيهما ويصيبان الموقف العربي بالمزيد من الوهن. المصالحة هي نقطة البداية للفلسطينيين وليس المفاوضات، فمن دونها لن يحصلوا إلا على المزيد من الإملاءات.