انتخابات كاتمة للصوت

TT

ليس مبالغة أو تهويلا للأمور إذا قلنا إن العراق هو أكثر بلد في العالم في حجم المشكلات والصعوبات والأزمات التي تعصف به، وطنا ومواطنين، إلى الحد الذي جعلته يحتل المراكز الأولى وبلا منافسة (اللهم إلا من الصومال والسودان اللذين لا يجوز مقارنتهما أصلا مع إمكانات وموارد العراق) في التصنيفات العالمية فيما يتعلق بحجم الفساد والفقر والأمية والإرهاب ونقص الخدمات ومعدلات الطلاق وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من مواضيع، فالعراق بلد متميز في كل شيء؛ في العنف والقسوة والرياضة والفن والإعلام والفضائيات التي ربما يصل الحال بنا أن تكون لكل مدينة وقرية أو عشيرة وعائلة في العراق قناة فضائية أو جريدة، تكرر وتسرق وتنشر كتابات وجهود الآخرين.

وطننا يملك ثروة هائلة من النفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى، وأكثر من نصف سكانه تحت مستوى خط الفقر، لكن بالمقابل تنمو يوما بعد يوم طبقة من الأغنياء وأصحاب النفوذ تملك كل شيء، وتريد الاستحواذ على كل شيء، من السلطة والنفوذ والعقود والمقاولات والامتيازات ورواتب التقاعد الكبيرة التي قد يصل الحال بميزانية العراق أو ميزانية إقليم كردستان فيصيبهما العجز، ولا تكون لهما مهمة إلا توفير رواتب الوزراء ووكلائهم وأعضاء البرلمان ومن يحمل صفة مدير عام من منتسبي الأحزاب ومؤيديهم وحماياتهم، ومصاريف تعليم أبنائهم في المدارس الخاصة، ومن هم في الخدمة الآن، أو السابقين والمقبلين في مقبل الأيام. العراق أكثر بلد في العالم جرت وتجري فيه انتخابات، وعلى أكثر من مستوى ونوع، فقد جرت فيه انتخابات مجلس النواب وانتخابات برلمان كردستان وانتخابات مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وانتخابات نقابات الأطباء والمحامين والصحافيين، وفيه منظمات المجتمع المدني التي تملأ الأجواء لهيبا وحماسا وتقارير وتحليلات ونتائج واستنتاجات وغيرها، ومع كل ذلك لم يتغير حال المواطن في العراق، ولم يتقدم إلا بالقدر الذي تفرضه قوانين الطبيعية وجهود الأفراد الذاتية، ومكارم ومنح وأعطيات السلطة التي توزعها على أتباعها هنا أو هناك.

لقد وصلت الأوضاع في العراق إلى مستوى خطير من الجمود السياسي والتصلب في المواقف للقوى السياسية التي احتلت المراتب المتقدمة في الانتخابات، وتم اغتيال الديمقراطية بهذا التأخير في تشكيل الحكومة العراقية، حيث يبدو أن أصوات الناخبين العراقيين ليس لها قيمة أو وزن إلا قبل الانتخابات، التي يتم فيها إطلاق الوعود وإعلان البرامج والتعهدات التي تنتهي ويتم نسفها مع أول إعلان للنتائج. الانتخابات الكاتمة للصوت هي السمة المميزة للديمقراطية العراقية الجديدة، والمسدسات الكاتمة للصوت أيضا سمة لتطبيق هذه الديمقراطية تجاه المخالفين والمصنفين خصوما أو أعداء، ويؤيد ما قلناه أعلاه تقرير أصدره «مرصد الحقوق والحريات الدستورية»، الذي أشار فيه إلى اتساع وتنامي ظاهرة الاغتيالات بواسطة المسدسات كاتمة الصوت، والموجهة ضد شرائح معينة من أبناء الشعب العراقي، مثل القضاة ورجال الأمن والفنيين والخبراء. والارتفاع الكبير في أعداد ضحايا هذه الظاهرة منذ بداية العام الحالي، حيث بلغ عدد الذين اغتيلوا بين الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي حتى سبتمبر (أيلول) الماضي، 686 شخصا، مقارنة مع 473 عام 2009 أما عام 2008 فقد كانوا 270، وأكد أن غالبية القتلى سقطوا في بغداد 230، ونينوى 209، وكركوك وديالى 70 (كركوك 46)، وصلاح الدين 41. وأوضح المرصد أن «تحليل هذه الظاهرة الخطرة يؤكد بروزها أثناء الأزمات السياسية، وعليه، وطبقا لفهم ما يجري من أحداث، فإن تأخير تشكيل الحكومة قد يكون أحد أهم أسباب انتشارها كوسيلة لتصفية الحسابات بين الخصوم السياسيين».

وبدلا من أن تكون الديمقراطية والانتخابات طريقا لتداول وانتقال السلطة بقوة وتأثير الصوت، تحولت مع الأسف في العراق إلى انتخابات ومسدسات كاتمة للصوت.

* كاتب عراقي