لماذا لم تفقد جائزة نوبل مصداقيتها؟

TT

إنه لشيء عجيب غريب: على الرغم من أن جائزة نوبل أُعطيت في أحيان كثيرة لكتّاب من الدرجة الثانية وربما الثالثة ومُنِعت عن كتاب ومفكرين كبار، فإنها لا تزال محافظة على هيبتها ومصداقيتها! فالجميع يترقبونها كل عام باعتبارها أعلى جائزة وأنبل جائزة في العالم. الكل يحبسون أنفاسهم دقيقة بدقيقة قبل أن تعلن عن اسم أكبر أديب في العالم. والشيء اللافت للانتباه هو أن نوبل الآداب هي التي تحظى بكبرى درجات الاهتمام والترقب! إنها أهم من نوبل الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أو حتى جائزة نوبل للسلام.. أليس هذا دليلا على عظمة الأدب وأهميته باعتباره روح الشعوب وجوهر الإبداع البشري؟

لنلق نظرة سريعة على من نالوها ومن حُرِموا منها حتى الآن ولنقارنْ ولنستخلص المحصلة النهائية. لم ينلها أكبر فيلسوف في القرن العشرين مارتن هيدغر، بسبب ملاحقة اللوبي المسعور له بتهمة النازية. هذا في حين أنه حظي بها كاتب مغمور يدعى إسحاق سنجير أو كارل سبيتلير أو هالدور لاكسينيس أو هارولد بانتير.. هل تعني لكم هذه الأسماء شيئا؟ أخذها هنرييش بول ولم يأخذها بيرتولد بريخت. من العظماء الذين منعت عنهم وكان يمكن أن يشرفوها ويرفعوها إلى أعلى مقام: تولستوي، وتشيخوف، وإميل زولا، وجيمس جويس، ومارسيل بروست، وفيرجينيا وولف، وبورخيس، وبقية العظماء. في المقابل أحيانا أحسنت الاختيار فأعطتها لشخصيات من نوعية: ييتس، وبيرغسون، وكامو، وسارتر، وتوماس مان، وفولكنر، وبيكيت، وماركيز، ونجيب محفوظ، وهمنغواي، وآخرين. وهؤلاء هم الذين أنقذوا سُمعتها. وتقول الأنباء إن الأسماء الضعيفة كثيرا ما جرت حولها نقاشات حادة داخل كواليس الأكاديمية السويدية الموقرة. بل واستقال بعض أعضائها احتجاجا على إعطائها لمن لا يستحقونها. وبالتالي، فالأكاديمية لا تستطيع أن تصنع الأدباء الكبار وإنما هم الذين يصنعونها.

والآن، ماذا عن آخر المنتخَبين السعداء - ماريو فارغاس يوسا؟ هل يستحقها يا ترى؟ كل الدلائل تشير إلى ذلك. فهو أحد كبار الأدباء الذين أنجبتهم أميركا اللاتينية في القرن العشرين. وكمعظم أدباء تلك القارة المنكوبة بالاستبداد والفقر والفساد، فإنه انخرط في السياسة ولم يكتف بممارسة الأدب من خلال البرج العاجي. وكان في بداياته يساريا متحمسا لكاسترو والثورة اليسارية قبل أن ينقلب على ذلك ويصبح ليبراليا. وميزته أنه رفض الوصاية الستالينية أو الجدانوفية على الأدب حتى عندما كان مقربا من الشيوعية والشيوعيين. وهذا دليل على أنه أديب حقيقي. إنه أديب حتى العظم.

من المعلوم أن بيت أميركا اللاتينية كرس له قبل أسابيع قلائل معرضا كبيرا وسط العاصمة الفرنسية. وعلى هامشه وقبل أن يعرف أنه سينال نوبل صرح للصحافة الفرنسية قائلا: «إن الأدب كان دائما العمود الفقري والعصب الحساس لوجوده. صحيح أنه مارس السياسة، بل وكان مرشحا لرئاسة جمهورية البيرو عام 1990، ولكن الأدب كان دائما هو مركز حياته. فمن أجله عاش وفي محرابه أمضى أجمل لحظات حياته».

وفي طفولته الأولى، كان يعشق الأدب شعرا ونثرا ويلتهم كتب فيكتور هيغو وستندال وبلزاك وفلوبير التهاما. ألا يستحق شخص كهذا جائزة نوبل؟ وروايته الأولى التي نشرها عام 1963 بعنوان «المدينة والكلاب» تذكرنا بعنوان رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب». وهي الرواية التي شهرته في شتى أنحاء العالم. وقبل أن ينال نوبل، نال أكبر جائزة للآداب في إسبانيا هي: جائزة سيرفانتس. وبالمناسبة، فهو يحمل الجنسية الإسبانية ويستدير ببصره نحو مدريد تماما كما يفعل معظم كتاب أميركا اللاتينية. فإسبانيا هي أمهم الحنون وبلغتها يكتبون ويبدعون. وأخيرا، إليكم هذا التعريف الذي قدمه عن الكتابة الفنية. قال بما معناه: «ينبغي تذكير مجتمعاتنا بأن الأدب هو كالنار! إنه يعني الانشقاق والتمرد والعصيان على كل ما هو قمعي، سائد. وليس هناك من مبرر لوجود الكاتب على هذه الأرض إلا الاحتجاج والنقد وتحريك الأمور إلى الأمام». من يقول أفضل من ذلك؟ هذه المرة أحسنت الأكاديمية الموقرة الاختيار.