«التسويف».. عدوك!

TT

أكثر ما يعطل مشاغلنا وأهدافنا وأمنياتنا هو «التسويف» أي تأجيل أعمالنا إلى أجل غير مسمى. والتسويف عدو المنظمين منا.

ويبدو أن «التسويف» كلمة متأصلة في ثقافتنا العربية، حيث وجدتها متربعة في معاجم اللغة. أحد الضالعين في بحر اللغة قال لي ذات يوم: إذا لم تجد أصلا لكلمة ما في اللغة العربية فذلك مرده إلى أن العرب لا يستخدمونها، وهو بخلاف مسألة التسويف الذي نعاني منه جميعا، ولذا نجد هذه المفردة متداولة بين الناس. سيبويه قال عن كلمة «سوف»، المشتقة من التسويف، إنها «كلمة تنفيس فيما لم يكن بعد، ألا ترى أنك تقول سوفته إذا قلت له مرة بعد مرة سوف أفعل؟». وكلمة «سوف» في لسان العرب تعني «التنفيس والتأخير».

والمسوفون أنواع، فهناك من يسوف لأنه يخشى عواقب الإقدام على أمر ما ولا يعلم أنه لو أحسن الاستشارة والاستخارة، لهان عليه أمره. وهناك من يسوف ليتهرب من المسؤولية في العمل أو من مسؤولياته الاجتماعية الأخرى، ولا يتحلى بالشجاعة الكافية ليقول «اعذرني من هذا الأمر فهو فوق طاقتي». ومنا من يسوف لأنه مصاب بداء الكمالية (perfectionism)، فلا يمكن أن ينجز مع فريقه قيد أنملة، لأنه لا ينفك يعدل فيعدل فيعدل ثم يؤجل اتخاذ القرار حتى «تطير الطيور بأرزاقها» كما يقال. وهناك من يؤجل قراراته لأنه يخاف من المجهول، أو يخشى الوقوع في الخطأ، وربما نسي أو تناسى أن من لا يخطأ لا يعمل، وأن الخطأ خطوة نحو النجاح. بل إن الخطأ نفسه هو أعظم مدرسة.

وللخروج من معاناة التسويف، أمامنا خيارات كثيرة. منها مثلا إلزام أنفسنا بتحديد موعد نهائي للتسليم أو لإنجاز المهمة المطلوبة وهو ما يسمى بالـ(Deadline). وقد أظهرت دراسة لجامعة MIT الأميركية الشهيرة أن «الناس يقومون طواعية بوضع موعد نهائي للتسليم (deadline)، حتى ولو كانت تبعات ذلك مكلفة، لكي يتجاوزوا مشكلة التسويف التي تعترضهم». فيمكن أن تقول لمسؤولك مثلا، سوف أسلمك التقرير في اليوم الفلاني، أو تبشر أطفالك التواقين للخروج معك بقولك «سوف أصحبكم إلى المدينة الترفيهية في التاريخ الفلاني»، وهذا الأسلوب الملزم يساعد على تجاوز عقبات الإنجاز في مختلف المجالات.

ومن الطرق الأخرى في التعامل مع قرارات التأجيل غير المبررة، الإعلان، على الملأ، عن نيتي إنجاز أمر ما، كأن أخبر زملاء العمل أو الزوج أو الأصدقاء بأنني سأشترك في ناد رياضي، أو سألتزم ببرنامج الحمية الصارم، أو سأخسر 5 كيلوغرامات من وزني، أو سأقلع عن التدخين، أو سأقبل عرضا وظيفيا أفضل. عندما يخبر الإنسان الآخرين بقراراته، فإنه سيبذل قصارى جهده، بطبيعة الحال، ليظهر بصورة الشخص المثالي غير المتراخي أو المتردد.

ومن الحلول الناجعة في الحد من التسويف، والتي جربتها كثيرا، «خطة الـ15 دقيقة» بحيث يضع الفرد قائمة بالأمور المهمة التي لم ينجزها بداعي التأجيل، ويختار البدء بأحدها لمدة ربع ساعة، شريطة أن يغلق الهاتف والتلفزيون وغيرهما من أمور تشتت تركيزه. وبعد إنجازه، يقرر ما إذا كان يريد التمديد لمدة مماثلة من عدمه. ميزة هذه الطريقة أنها تدخلك فورا في أجواء ما كنت ترجو «البدء به» منذ مدة طويلة.

أما المنظمات الحكومية والخاصة فقد أوجدت حلا ناجعا في التعامل مع المسوفين عندما قررت فرض غرامات مالية لمن يتأخرون عن تسلم معاملاتهم كتجديد الإقامة، أو الهوية الوطنية، أو جواز السفر. والأمر نفسه ينطبق على من يتأخر عن تسلم سيارته المخالفة و«المكبوحة» على قارعة الطريق من قبل رجال المرور، أو تلك القابعة في وكالة السيارات لأسابيع، لأن صاحبها المسوف لم يقرر أن يأخذها رغم انتهاء أعمال الصيانة فيها! بعض هذه الغرامات تكون بمبالغ يومية، فكلما أكثر المرء من تسويفه زادت قيمة مخالفاته. ويذكرني هذا بصديق أخذ عهدا على نفسه بألا يغتاب أحدا قط، لكنه فشل مرارا، ولم تفلح محاولاته إلا عندما ألزم نفسه بالتبرع بدينار كلما اغتاب أحدا!

وهناك أمور أخرى كثيرة للحد من التأجيل أو التسويف منها تجزئة الأهداف الكبرى إلى صغرى. وترتيب الأولويات. والأولويات تبرز عندما أحدد ما هي أهم ثلاثة أمور يجدر بي التركيز عليها خلال الأسبوع الحالي في عملي، وفي منزلي، وفي سائر شؤون حياتي الشخصية؟ ومن ثم نراعي أهمية تجنب تسويف في هذه الأولويات. هكذا ننجز ونتقدم.

تسويف الأعمال يسرق أوقاتنا لأنه يشغلنا أحيانا بما هو أقل أهمية عن الأهم. ولن ينجز المرء ما دام أسير التسويف، وقد قالت العرب «فلان يقتات السوف» أي يعيش بالأماني. نرجو ألا نكون منهم!

[email protected]