فن وفكر

TT

ينتقدنا الكثيرون وننتقد أنفسنا بأننا أمة متأخرة لا ترعى الفنون ولا تعبأ بالأدب، لم تكتب روايات ولا ألفت مسرحيات ولا سيمفونيات ولا رسمت لوحات ولا عملت تماثيل ولا أعطت أي مكان في حياتها لهذه العناصر الحيوية.

كله كلام فارغ! فبعد أن زرت ودرت شتى بلدان العالم فإنني لم أجد أمة كالأمة العربية أسيرة للفن والأدب. الإنجليز والألمان والفرنسيون، ومن لف لفهم، يذهبون للحفلات الموسيقية، ينصتون للعازفين ويصفقون لهم ويثنون عليهم في الجرائد وربما يعطونهم جوائز وينتهي الأمر. لا يقيمون حياتهم ولا يخططون أعمالهم في ضوء ما سمعوه. ولكن تعال يا سيدي القارئ وتذكر واعتبر. هزتنا أم كلثوم بأغانيها شرقا وغربا، من المحيط إلى الخليج فتصورنا أننا أمة واحدة فرقها الاستعمار وما علينا الآن غير أن نتعلم منها ونتحد في كيان واحد مقوماته «هلت ليالي القمر» و«أمل حياتي» و«رق الحبيب وواعدني».

هؤلاء الأوروبيون يتخاصمون ويتنازعون كل يوم بشأن اليورو والإسترليني من دون أن يعبأوا قط بما استمعوا إليه ليلا من البرلين فلهارمونيكا أو صوت بافروتي. أين ذلك منا ومما نفعله؟ استمعوا في سورية لأم كلثوم يوم الخميس وقرروا يوم الجمعة الاتحاد مع مصر.

انظر لمثل ذلك في دنيا الشعر. أوه.. ولا تحدث. أنشد محمد مهدي الجواهري شعره لعبد الكريم قاسم:

وشدد الحبل واضرب في عناقهم

فإنما الحبل في إرخائه الحذر

ما إن قال ذلك حتى خرج العراقيون بحبالهم وراحوا يسحلون زعماءهم وساستهم في الشوارع. وصدقه صدام حسين فأقام المشانق المزدوجة واستورد الحبال القنب من بلاد السند والهند. ومضى الشاعر الأوحد ينشد ويغرد، تصور الأمر معكوسا.

وجلسنا نستمع للقصائد المعلقات عن تحرير فلسطين. وتوالى الشعراء وتكأكأوا على الموائد. وعاد الجميع لبيوتهم وقلوبهم عامرة بالإيمان والرضا والإعجاب والثقة المطلقة بقادتهم، ينشدون ويرددون ويكررون، سمعت يا أبو خليل إش قال الشاعر:

سأحمل روحي على راحتي

وأرمي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا

أوه يا أستاذ، لاحظ هذا الجناس الجميل، روحي وراحتي! شيء روعة! الله أكبر! روعة ما بعدها روعة! ويعود الأستاذ ويعود أبو خليل ويعود الجميع لبيوتهم واثقين من قضيتهم وانتصارهم على الباطل. وفي ذلك الليل يكون وكلاء الأرغون وشتيرن منهمكين في تهريب السلاح والعتاد لحيفا ويافا وكل مناطق اليشوف.