العلة.. في علة الوجود

TT

تتفاقم معضلات لبنان بوتيرة غير معهودة وتزداد تعقيدا بحيث لم يعد ما يسمى بـ«طاولة الحوار الوطني» قادرة على استيعابها، فكم بالحري تسويتها؟

لبنان ينوء اليوم بحمل متاعبه، قديمها ومستجدها، وطاقمه السياسي عاجز عن حلها.

الحل، لأي مشكلة كانت، غير وارد في قاموس لبنان السياسي. بأحسن الحالات تنتهي مشكلاته بـ«لا غالب ولا مغلوب»، أي ترقد على حالها، وبأسوئها ترحل من عهد إلى عهد فتزداد تعقيدا وتهديدا لأمل يراود أحلام اللبنانيين منذ أن كان لبنان: الوحدة الوطنية.

رائع الحديث عن طاولة حوار وطني في دولة فشلت، على مدى العقود التسعة التي انقضت على قيامها، في أن تكون «وطنا» جامعا لأبنائها.

إخفاق «طاولة الحوار الوطني» في حل معضلة الثنائية بين الدولة الشرعية والدولة الموازية كاف، في حد ذاته، لأن يقنع من تبقى من القياديين الواقعيين في لبنان بأن الوقت قد حان لأن يتحلوا بالجرأة الكافية لطرح السؤال الأساسي في محنهم المزمنة: أي «وطن» هو لبنان؟ والجرأة الكاملة للاعتراف بأن «لا وطن» في لبنان.

«إنجازات» طاولة الحوار الوطني تثبت أنه مهما تفاقمت مشكلات لبنان وتأزمت، ومهما استقوت هذه الجهة أو تلك بشريك خارجي، تبقى علة لبنان الأساسية في «علة» وجوده ككيان طائفي ما زال يجهد لأن يعيش خارج زمانه، بصرف النظر عن الطائفة المقصود أن يكون لبنان «ضمانتها» في عصر سايكس - بيكو.

إذا كان عرابا لبنان «الدولة»، المرحومان مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، استولداه، من إرث الإمبراطورية العثمانية كيانا طائفيا بامتياز، عام 1916، فقد بات لزاما على جيل القرن الحادي والعشرين إعادة استيلاده من إرث الإمبريالية الفرنسية - البريطانية الغابرة.. قبل أن يحتضر كليا.

من عاش بالسيف مات بحده. فكما كانت الطائفية علة وجوده في العشرينات من القرن الماضي، فإنها تهدد بأن تكون علة وفاته في القرن الحادي والعشرين.

المضادات الحيوية العربية لم تعد تجدي في إنقاذه، فمسؤولية استمراره على قيد الحياة باتت في أيدي اللبنانيين أنفسهم، باعتراف الكثير من المسؤولين العرب.

ولكن الحل اللبناني للبنان يتطلب أن يجلس بعض كبار سياسييه حول طاولة مستديرة ويعيدوا النظر، بروية وعقلانية ومسؤولية تاريخية، في علة الكيان.

عام 1776، سبعة سياسيين أميركيين – لا أكثر ولا أقل - التقوا في واشنطن للاتفاق على دستور الدولة، التي أصبحت الأعظم في العالم.

سبعة حكماء، سموا بـ«الآباء المؤسسين» (جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وجون آدامز وجيمس ماديسون وألكسندر هاملتون وجون هانكوك وبنيامين فرانكلين) كانوا كافين لاستنباط وطن ديمقراطي، لا طائفي ولا عرقي، من مستعمرة بريطانية فاشلة.

هل يستحيل العثور على سبعة حكماء في لبنان قادرين على التعالي على مصالحهم الضيقة وإعادة صياغة دستور جديد للبنان جديد، بحيث ينتقل من حالة الدولة المحتضرة إلى حالة الوطن القابل للحياة؟ (حتى ولو تم توزيع «الآباء المؤسسين» على طوائف لبنان السبع الرئيسية).

هل يصعب على سبعة حكماء لبنانيين أن يغوصوا في مشكلة لبنان حتى جذورها ويريحوا العواصم العربية والدولية من هم التعاطي مع مشكلاتهم الداخلية؟

لبنان، في نهاية المطاف، مشكلة لبنانية يتفق كل اللبنانيين على تشخيص علتها.. ويختلفون على توصيف علاجها (كما أثبتت جلسات «طاولة الحوار الوطني») ذلك.

آن الأوان لأن يخرج اللبنانيون من دوامة «الحوار السياسي» إلى رحاب «الحوار الدستوري»، فيعيدوا صياغة مفهوم الوطن من أساسه، بعيدا عن أي انحياز مذهبي لهذه الجهة أو تلك.

إلا أن السؤال يبقى: إذا أصلح الحكماء دستور لبنان.. فمن يُصلح اللبنانيين أنفسهم؟