المسلمون والاندماج في العالم

TT

لست أريد بهذا القول الحديث عن المسلمين المنتسبين إلى الدول الإسلامية، وإنما أقصد به غيرهم ممن ينتمون، خاصة، إلى دول أوروبا الغربية، والشمالية، وبريطانيا، وكذا دول أميركا الشمالية. لهذه الدول سمة واضحة تجمع بينها، هي التنامي المتصل في أعداد المسلمين فيها منذ العقود الأربعة الماضية. وأما الاندماج في العالم فإنني أعني به الانتماء الكامل لمسلمي البلدان المذكورة للدول التي يعيشون فيها ويحملون جنسياتها. قد يلزم أن نعلم أن هؤلاء المسلمين لا يكادون يخرجون عن نوعين اثنين: إما أنهم يحملون جنسيات تلك الدول (الفرنسية، والألمانية، والكندية...) بموجب القوانين الجاري بها العمل في تلك الدول، وهذه ترتبط الجنسية فيها بالأرض التي يولد المرء فوقها. وإما أنهم قد اكتسبوا الجنسية، في أحد تلك البلدان، اختيارا ورغبة فحصلوا عليها بعد إجراءات طالت أو قصرت، حسب البلاد وحسب الحالات، وذلك لدواع وأسباب ليس مقالنا اليوم مقام القول فيها. نعلم أن الانتساب إلى جنسية معلومة يعني، من الناحية القانونية المحضة، الاشتراك في المواطنة مع حملة تلك الجنسية وبالتالي مشاركتهم في الحقوق والواجبات. والسؤال عندنا اليوم هو التالي: ماذا يمكن قوله عن الاندماج الحق للألمان المسلمين أو الفرنسيين المسلمين أو الكنديين المسلمين (وهذا تمثيل لا حصر) في البلدان التي يحملون الجنسية فيها؟

يجدر الانتباه، بادئ ذي بدء، أنه ليس في الوسع الكلام عن «أقليات» مسلمة في البلاد المذكورة ما دام تعداد المسلمين في تلك البلاد بالملايين وما دام الإسلام يعتبر الديانة الثانية فيها بعد الديانة المسيحية بمكوناتها الثلاثة المعروفة (الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأنجليكانية). والسؤال السابق يحيل في تلك البلدان إلى سؤال الهوية: من هو الفرنسي اليوم؟ من هو الألماني؟ من هو الكندي؟ السؤال المحرق المحرج معا يعني، متى اعتبرناه بكيفية أخرى: ما المعايير الثقافية والوجدانية التي يتعين الأخذ بها حين الحديث عن الهوية؟ ذلك لأن الهوية لا تفيد دوما المطابقة التامة مع الجنسية. ذلك لأن الفرنسي أو البلجيكي أو الألماني اليوم لا يسلمون، بسهولة، بأن الانتساب القانوني (= بموجب الجنسية) لفرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا يعفي من طرح سؤال الهوية ويحول دون تحريك المكونات الوجدانية والثقافية التي تثوي خلف «المواطنة» - بل إن واقع الحال في البلدان التي نتحدث عنها يحمل على التفكير حملا في الارتباط القائم بين المواطنة، والجنسية، والهوية.

لنحاول النظر في المسألة بنظرنا في قضية أخرى ترتبط بها أشد ما يكون الارتباط، بل إنها تخترقها وتشد بعضها إلى بعض بوثاق شديد، إنها قضية الاندماج أو، بالأحرى، مجمل المشكلات التي تثيرها قضية الاندماج من حيث ارتباطها بقضية الهجرة... الهجرة الحديثة إلى البلدان المشار إلى البعض منها فأكسبتها الصفة التي نتحدث عنها.

لا غرو أن الدين، من الوجهة الدستورية المحضة، في دول أوروبا وأميركا الشمالية يعتبر من الأمور التي ترجع إلى الحياة الخاصة للمرء. للوهلة الأولى تبدو «المسألة الدينية» مسألة تكرر القول فيها مع الثورات الكثيرة التي عرفتها دول أوروبا في حقول السياسة والاجتماع والفكر وذلك منذ القرن الثامن عشر، لا بل إن بلدا مثل هولندا قد انتهى إلى الحسم في المسألة قبل ذلك بقرن واحد من الزمان على الأقل. لذلك كانت الأراضي المنخفضة مجالا فسيحا للحرية والتسامح أمكنه أن يستوعب فكر الفرنسي ديكارت والإنجليزي جون لوك وأن يجد كل منهما فيه ما كان يفتقر إليه في بلده الأصلي من حرية ورحابة صدر. غير أن واقع الحال سيكشف، بعد أزيد من ثلاثة قرون، عن عكس ذلك إذ ستضيق هولندا ذرعا بحرية التعبير.. أو أن هذا الواقع يحمل التأمل على إعادة النظر فيما كان، من حيث المبدأ، يعتبر حقيقة أولية ومكتسبات إنسانية عظمى على درب الحرية والتسامح واحترام حقوق الإنسان.

منذ قرابة الأسبوعين ألقى الرئيس الألماني كريستيان وولف خطابا بناسبة الاحتفال بمرور عشرين سنة على إعادة توحيد شطري ألمانيا. في ذلك الخطاب أثار الرئيس قضية، منذ أسابيع، تستحوذ على الاهتمام الجماهيري، وهي قضية الهجرة ودمج المهاجرين في النسيج الاجتماعي والثقافي الألمانيين وليس مجرد التوافر على جواز سفر ألماني. وردت في الخطاب المشار إليه جملتان «لا شك أن المسيحية جزء من ألمانيا، ولا شك أن اليهودية جزء من ألمانيا، فهذا هو تاريخنا الألماني. لكن الإسلام الآن هو كذلك جزء من ألمانيا». وقبل بضعة أيام أوردت «الشرق الأوسط» خبرا مفاده أن الألمان منقسمون على أنفسهم فيما يتعلق بردود الفعل على خطاب الرئيس الألماني. فحيث كان نصف العينة المفحوصة موافقا على أراء الرئيس الألماني بصدد الإسلام في ألمانيا اليوم كان هناك، بالمقابل، 47 في المائة يعتقدون خلاف ذلك. ومنذ مدة ليست بالبعيدة أدلى الزعيم البلجيكي اليميني المتطرف فيليب دونتر بتصريحات تفيد بتذمر علني من تزايد أعداد الفلمنك المسلمين في أحد الأحياء مقدما على ذلك دليلا هو أنه من بين 770 اسما من ساكني الحي المشار إليه لا يوجد سوى 21 اسما وعنوانا من أصل فلمنكي. كذلك ذكرت الأنباء، مؤخرا أيضا، أن خيرت فيلدرز، السياسي الهولندي المعارض للإسلام الذي شبه القرآن الكريم بكتاب «كفاحي» لهتلر قد مثل أمام المحكمة الهولندية بتهمة التحريض على الكراهية والتمييز ضد المسلمين. فأما القانون البلجيكي فيجرم مثل تصريحات الزعيم البلجيكي المتطرف، وعدد من جمعيات مناهضة العنصرية في بلجيكا قد تقدمت بشكاوى في الموضوع ولربما استوجبت التهمة إيداع صاحبها في السجن أو بتغريمه ما لا يقل عن نصف مليون يورو. كما أن العقوبة في حق زعيم اليمين المتطرف في هولندا، حال الإدانة، ستكون شيئا قريبا من ذلك. غير أن هذا كله لا يمثل جوهر القضية بالنسبة لنا، وإنما الجوهر والعمق يكمنان في الرواسب الوجدانية الدفينة التي لا تزال تفعل فعلها في الوعي الجمعي. وبموجب تلك الرواسب فإن «الغير» المخالف في الملة واللسان يعتبر، في الحد الأدنى من القول، «غريبا» وفي اللاشعور الجماعي «عدوا» يلزم الاحتياط منه إن لم نقل إنه ينبغي محاربته. متى كان الأمر كذلك فإن مقتضيات القانون، وإن كثرت، وموجبات المواطنة، وإن كان التسليم بها من جهة العقل والمنطق واجبا، لم تكن لتحول دون وجود ميول لا شعورية تطفو، بين الفينة والأخرى، على سطح الشعور. نحن إذن لا نستغرب من زعيم الجبهة الشعبية الفرنسية، الحزب المغرق في الشوفينية، قوله إنه يفضل سكنى الضاحية على السكن داخل المدن لأنه يحبذ مشاهدة الأبقار على رؤية الوجوه العربية في المدن الفرنسية.

الشأن في الأميركيين المسلمين وفي الكنديين المسلمين غيره في أوروبا، والأمر كذلك لأسباب تاريخية وأخرى ثقافية، وكل ذلك يجعل الصلة بين الإسلام المعاصر وبين أوروبا اليوم غير الصلة بين الإسلام ودول العالم الجديد.

غير أنه يتعين علينا القول إجمالا إن قضية الاندماج التي رأينا اليوم بعض جوانبها تقتضي النظر إليها من جهتين. الجهة أولى هي جهة الساكنة الأصلية للبلد الذي كانت الهجرة إليه. والجهة الثانية هي جهة المهاجرين أو «المواطنين الجدد» إنها قضية شطرها الأول الموافقة والقبول وشطرها الثاني القدرة على الاندماج الفعال. والقضية، متى اعتبرناها بهذه الكيفية الجديدة تجعلنا أمام وجوب الانتباه إلى فروق أخرى جديدة يحمل عليها النظر وواقع الأمر معا: إنها قضية الفروق القائمة، فعلا لا توهما، بين الجيل الأول من المهاجرين إلى بريطانيا ودول أوروبا الشمالية ودول أوروبا الغربية وبين من ينعتون اليوم بأبناء الجيل الثاني، وربما الجيل الثالث، من المهاجرين.

اندماج المسلمين في مختلف دول العالم، مع أخذ الاختلافات والفروق بين الدول بعين الاعتبار، تقتضي معالجتها من حيث إنها قضية قبول وموافقة من الساكنة الأصليين أو «المواطنين على الحقيقة» وليس من كانوا كذلك بموجب القوانين وحدها وهذا من جانب أول. ثم إنها، من جانب ثان، إرادة الاندماج الحر في البلد الذي كان ارتضاؤه وطنا واستقرارا. إنها، في عبارة أخرى، القدرة على الجمع بين الانتساب إلى الإسلام دينا والانتماء إلى غير دولة الإسلام مواطنة وثقافة. والسؤال الجديد يغدو هو التالي: كيف يكون حل المعادلة ممكنا في زماننا هذا؟

النظر إذن إلى قضية ثلاثية الأطراف: المسلمون، والمواطنة، والاندماج.