قمة الإعراض عن الأوهام والالتفات إلى الوقائع

TT

ما كانت قمة سرت الاستثنائية من القمم اللافتة في سلبياتها أو إيجابياتها. ولذلك سرعان ما نسيت، وانصرف كل طرف إلى متابعة المشهد الجديد للمنطقة، وهو مشهد تتوالى فصوله بسرعة تقطع الأنفاس. وقد أدرك أسياس أفورقي، رئيس إريتريا (المعروف بعدوانيته تجاه العرب عامة)، حقيقة الموقف، عندما قال على أثر آخر جلسات القمة العربية - الأفريقية في اليوم التالي للاستثنائية العربية: «أرجو أن لا ينسى الإخوان العرب ما وعدوا به، وإن حصل، فقد ربحنا كلاما جميلا على الأقل»!

كان موضوعا القمة العربية الرئيسيان: إصلاح الجامعة العربية وتقوية مؤسساتها، ورفعها إلى درجة «اتحاد» على شاكلة الاتحاد الأوروبي، وليس الاتحاد الأفريقي! وإنشاء رابطة مع دول الجوار العربي. وفي الموضوعين لم يتم إحراز تقدم، وجرى ترحيل الموضوعين عمليا إلى قمم لاحقة. أما موضوع «الاتحاد»، فصاحبه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وتبناه معه العقيد القذافي، وهو الذي أعطاه اسم: الاتحاد. وقد جرى نقاش في جدوى التسميات الكبيرة، في ظل الواقع البائس، ووصول العلاقات الثنائية بين دول المشرق والمغرب إلى أدنى درجاتها. فالذي يعاني منه العرب ليس الانقسام الحماسي كالسابق، بحيث تتصارع المشاريع والأفكار والمبادرات؛ بل على العكس من ذلك؛ فإن الذي يعاني منه العرب هو انعدام المشروع أو يكاد! فالعلة في الضعف العربي، وليس ضعف الجامعة العربية؛ بل التخثر العربي العام، والمطلوب بالفعل بدء سياسة الخطوات الثابتة في المجالات الاقتصادية والتنموية والعلاقات الثنائية والإدارة السياسية المنسقة للعلاقات البينية والعلاقات مع الكتل الأخرى والمؤسسات الدولية والعالم. وعندما نصل إلى مرحلة متقدمة من التعاون والتضامن يجد «الاتحاد» نفسه قد تحقق، وتنطلق التسمية من الواقع؛ بدلا من التلهي بالأوهام الاسمية. وقد تنبه الجميع إلى المأزق أو كانوا متنبهين له قبل مجيئهم، لكنهم على الرغم من ذلك أصروا على التصويت على المشروع، فحصل على أكثرية ضئيلة لا تتيح للتسمية الجديدة أن تتحقق. وما اختلف الموضوع أو ما اختلفت النتيجة عندما جرى الانتقال إلى الأمر الثاني: الرابطة مع دول الجوار. فقد ذكر عدة متحدثين، تعليقا على مشروع الرابطة المقدم من الأمانة العامة للجامعة، أن فكرة «الرابطة» فكرة حميدة، وهي ضرورية ضرورة منظمة المؤتمر الإسلامي. لكنها تقتضي حوارا عميقا وممتدا مع دول الجوار الإسلامي وغير الإسلامي، لا تتيحه حقائق ووقائع الأوضاع السائدة في العقد أو العقدين الأخيرين. ومع أن إيران ذكرت في سياق التدليل على سوء العلاقات باعتبارها غير جارية على النحو المرغوب والمتوقع؛ فإن وزير الخارجية السعودي ما ترك الأمر عند حدود إلقاء التهم، بل لفت إلى المسؤولية العربية عن الوضع السائد عندما تحدث عن «الفراغ الاستراتيجي» الذي تعاني منه المنطقة العربية في المشارق والمغارب؛ وهو وضع يشجع الطامحين والطامعين، ويعملق الجبروت والابتزاز الإسرائيلي، ويجعل الأمة العربية مكشوفة أمام الذات والعالم.

وفي كل من السياقين، العربي - العربي، والعرب ودول الجوار، ذكرت الأوضاع غير المطمئنة في فلسطين والعراق ولبنان واليمن والسودان. في فلسطين ذكر الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني وعواقبه ومسؤولياته، وضرورة التعاون العربي - العربي، والفلسطيني - العربي؛ في إيجاد مخرج منه وله. وعندما وصل الأمر إلى لجنة المتابعة العربية وتوصيتها باستمرار التفاوض أو قطعه لصالح العودة إلى مجلس الأمن، كان هناك من قال إن اللجنة ليس من صلاحياتها النصيحة بهذا الأمر أو ذاك؛ بل رعاية المبادرة العربية للسلام، والدعوة لها في العالم! لكن كان واضحا أن الجميع يدركون، وللمرة الأولى منذ عقود، أن التفاوض أو عدمه، ليس مشكلة عربية، بل صار مشكلة إسرائيلية، نتيجة العجز الإسرائيلي عن الدخول في السلام أو المضي إلى الحرب. فقد خرجت الأمور من حالة اللاحرب واللاسلم، إلى مرحلة من يملك القدرة على صنع السلام، ومن لا يملكها. وحق العرب وواجبهم تجاه أنفسهم وقضيتهم أن يتأهلوا للخروج من الحالة الراهنة إلى التشارك مع العالم في تحقيق السلام العادل والشامل، حسبما هو منطق المبادرة العربية.

أما المسألة في العراق الآن، فتتمثل في القدرة على إعادة تكوين السلطة التي تمثل سائر أطياف المجتمع العراقي، بحيث يتوافر لها الاستقرار والأفق المستقبلي. والواضح أنه إذا كانت الأطراف الأقرب للتأثير في الملف الفلسطيني - الفلسطيني هي مصر وسورية والأردن والسعودية؛ مع تقدم لمصر وسلوك إيجابي من الآخرين؛ فإن الأطراف المعنية في الملف العراقي تشمل إلى جانب السعودية وسورية؛ دولتي الجوار العربي الكبيرتين: إيران وتركيا. وليكن سلوك هاتين الجارتين الشقيقتين في هذا الملف، اختبارا للتأهل لرابطة دول الجوار التي تريد التعاون من أجل الاستقرار والتنمية وحسن الجوار في هذه المنطقة المضطربة منذ الهجمة الأميركية على العراق عام 2003. فالولايات المتحدة تريد الانسحاب من العراق عام 2011، والعراقيون جميعا مسؤولون عن إنهاء الغزو وآثاره بإقامة سلطة مستقرة تحول دونها حتى الآن الاختلافات على السلطة بالداخل، وتدخلات دول الجوار العربية وغير العربية. الذي يبدو الآن بعد التدخل السوري والتركي، أن تعديلات تطرأ على الاتفاق الإيراني - الأميركي على المالكي رئيسا للوزراء (وقد زار الأخير سورية قبل يومين)، لصالح إشراك الآخرين إشراكا يعيد التوازن الذي تهدد بفعل ذاك التوافق.

ولا يبدو لبنان وتوتراته بعد القرار السوري بحق ثلاثة وثلاثين لبنانيا مطلوبا توقيفهم، وخنزوانات شهود الزور، بمعزل عن التفكير العربي والهم العربي. فقد زار لبنان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لمدة يومين (أمس وأول من أمس). وما بدا من وقائع زيارة اليومين أن الرجل أتى إلى لبنان ليضمه إلى جبهة «الصمود والتصدي» العتيدة التي أعلن عنها بطهران عندما زارها الرئيس السوري الأسبوع الماضي. فقد تلت تلك الزيارة القمةُ ومشاوراتها، والحركة السعودية باتجاه مصر، والتركية باتجاه سورية. ويبدو أن تعديلا ما طرأ على التوافق الإيراني - الأميركي على المالكي وحزب الدعوة. وقد غلبت على كلمات الرئيس الإيراني بلبنان العموميات بشأن دعم لبنان ومقاومته في مواجهة إسرائيل. وما تعرض للوضع الداخلي بلبنان إلا مرة واحدة عندما ذكر أن «يد الغدر» امتدت إلى صديق لإيران (يقصد الرئيس رفيق الحريري)، وأن جهات غادرة دولية تحاول الاعتداء على أصدقاء آخرين لإيران (يقصد المحكمة الدولية). لكن الأمين العام لحزب الله كان شديد الحرارة في الدفاع عن مشروعه للمقاومة والتحرير واضعا له سقفين: السقف الإسلامي الثوري (التحرير من النهر إلى البحر)، والسقف القومي العربي المتجلي بلاءات الخرطوم. وهكذا يبقى أمر الزيارة - كما قال الأمير سعود الفيصل - بنتائجها، ومدى إسهامها في «السلم اللبناني».

ما أراد الأمير سعود الفيصل في مؤتمر سرت الحيلولة دون العناوين الجامعة والموحدة. بل رمى بوضوح لمقاربة المشكلات من الأساس: كيف نعالج حالة «الفراغ الاستراتيجي»، بحيث تشكل الجامعة العربية مظلة استراتيجية للأمة ودولها، فتفرض العناوين نفسها، بدلا من الاكتفاء بها، والعودة للغرق في الواقع وتعقيداته، واستنزافات القريب والبعيد؟! وهذا استشراف بعيد المدى، على مشارف مرحلة جديدة من حياة المنطقة والأمة. إذ الواضح أن في المنطقة وخارجها قوى بينها إسرائيل رابضة على رهانات وارتهانات اعتقدت أنها كسبتها في مرحلة بوش المنقضية، وهي لا تريد التخلي عنها، في الوقت الذي تخرج فيه منطقتنا من حالة اللاحرب واللاسلم، إلى أفق يمكن أن يكون واعدا إذا تأهلنا له سواء بالداخل العربي، أو بالعلاقة الصحية مع دول الجوار.