التدافع على الذهب في طهران

TT

لا أحد يدري أي المقولات السياسية المأثورة ستتمكن في نهاية الأمر من وصف الفترة التي قضاها محمود أحمدي نجاد في رئاسة جمهورية إيران الإسلامية. إلا أنه بالحكم، اعتمادا على تفاؤله الأعمى الذي يقارب السذاجة، قد يخلص المرء إلى الرأي التالي: «لقد قضت عليه أوهامه».

وعند الإنصات إليه نجده يقول إن الجمهورية الإسلامية واحدة من قوتين على مستوى العالم تطرحان رؤيتين متنافستين للمستقبل، (أما القوة الثانية فهي «الشيطان الأكبر» الأميركي).

لدى عودته من زيارة أخيرة لنيويورك، ادعى أحمدي نجاد تمتعه بشعبية أكبر في أوساط «الشعب الأميركي» من الرئيس باراك أوباما.

وقد قرر الكثير من الإيرانيين التعامل مع رئيسهم باعتباره ممثلا كوميديا، وظيفته الأساسية الإثارة والترفيه. إلا أن بعضهم يخشون من أن يسفر مزيج الغطرسة الزائفة والاستفزازات الخطيرة الذي يعتمده أحمدي نجاد في تصرفاته عن اندلاع حرب في النهاية، خاصة أن هذا النهج دفع بالبلاد، بالفعل، إلى ما يمكن وصفه بأسوأ كارثة اقتصادية تواجهها البلاد منذ مطلع ستينات القرن الماضي.

ويؤكد التقرير الاقتصادي السنوي الصادر عن المصرف المركزي الإيراني هذا الأسبوع، هذه المخاوف عبر رسمه صورة قاتمة. وطبقا للتقرير، فإن عدد سكان إيران ارتفع من 70 إلى 73 مليون نسمة، بينما إجمالي الناتج الداخلي إما تجمد أو تراجع. ويعد هذا العام الثاني على التوالي الذي لا يكشف المصرف فيه عن أرقام بشأن النمو الاقتصادي، مما أقنع معظم الخبراء الاقتصاديين بأن إجمالي الناتج الداخلي انحسر بالفعل. ويضم التقرير كثيرا من الأدلة المؤيدة لوجهة النظر تلك، منها أن قيمة الريال، العملة الوطنية الإيرانية، انخفضت بنسبة 20 في المائة تقريبا، مقارنة بسلة من العملات الرائدة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، شهدت سوق الذهب حالة من التدافع، مما أثار ذكريات أيام ولت كان ينظر خلالها إلى الذهب باعتباره المصدر الوحيد الموثوق به للقيمة. ولدهشتهم من الارتفاع الحاد في أسعار الذهب، لم تجد أسواق الذهب في طهران، والكثير من المدن الكبرى، بدا سوى إغلاق أبوابها. وسرعان ما تصاعدت الاتهامات ضد تجار الذهب بأنهم يرغبون في الإبقاء على مخزوناتهم من الذهب لبيعها بأسعار أعلى لاحقا.

وفي الوقت الذي تشهد فيه طهران تدافعا على الذهب، هناك تدافع آخر لسحب الودائع من المصارف لشراء عملات أجنبية، خاصة الدولار الأميركي. وتسبب السعي وراء السيولة في الإضرار بسوق العقارات بشدة مع تراجع متوسط الأسعار بنسبة 21 في المائة، خلال الأشهر الـ12 الماضية.

وتأزمت الأوضاع المالية الحكومية لدرجة أن بعض المتعاقدين من القطاع الخاص لم يتلقوا رواتبهم منذ أكثر من عام. ولم يحصل الأطباء العاملون في أنظمة التأمين الصحي التابعة للدولة على رواتبهم منذ مارس (آذار) الماضي.

كما تراجع الدخل الحكومي بصورة حقيقية بدرجة بالغة. على سبيل المثال، انخفضت صادرات النفط بنسبة 13.3 في المائة، أو ما يعادل 600 ألف برميل يوميا، وهو أكبر انخفاض منذ أواخر سبعينات القرن الماضي عندما مرت البلاد بحالة من الفوضى أثناء الثورة الخمينية. ويعني ذلك أن خالص الفاقد في الدخل الحكومي بلغ قرابة 16 مليار دولار.

وسعيا لتغطية هذه الخسارة، قرر الرئيس أحمدي نجاد أن خطته المفتون بها، التي عمد إلى إرجائها دوما، حان الوقت لتنفيذها في غضون الأشهر الخمسة التالية. ويعتقد الكثير من الخبراء الاقتصاديين أن إنهاء الدعم، الذي يكلف الخزانة العامة 20 مليار دولار سنويا، يعد خطوة كان ينبغي اتخاذها منذ أمد بعيد. جدير بالذكر أن معظم الإعانات الراهنة كانت قد أقرت في عهد الشاه الراحل، في خطوة اعتبرها منتقدوه محاولة لشراء صمت جموع الفقراء.

وهناك رقمان يشيران بوضوح إلى أن الاقتصاد الإيراني في حالة من الركود؛ أولهما تراجع الواردات بنسبة 7 في المائة إلى 55 مليار دولار، مع استقرار الصادرات غير النفطية عند مستوى 21 مليار دولار. ونظرا لأن جميع الصناعات الإيرانية غير التقليدية تقريبا تعتمد على مواد خام وقطع غيار مستوردة، فإن هذا الرقم يوحي بحدوث تباطؤ كبير في عجلة النشاط الاقتصادي. أما الرقم الثاني فهو انخفاض الطلبات الخاصة للحصول على تراخيص بناء جديدة بنسبة 40 في المائة، مما يعني أن صناعة البناء، التي شكلت أكثر الصناعات الإيرانية ديناميكية على مدار أكثر من عقد، عانت انتكاسة كبرى.

ومع ذلك، يحوي تقرير المصرف المركزي الإيراني خبرين سارين، الأول: تراجع معدل التضخم إلى 11 في المائة، على الرغم من أن الكثير من الدراسات المستقلة لا تزال تقدر هذه النسبة بـ15 في المائة. والثاني: يتعلق باحتياطيات النقد الأجنبي الحكومية، التي جرى بناؤها لمواجهة العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة.

من جهته، يعتقد أحمدي نجاد أن العاملين السابقين يوفران «مزيجا مثاليا» لإنهاء الإعانات بسرعة قصوى.

ومن أوائل الإعانات التي سيتم التخلي عنها ما يتعلق بـ16 من المواد الأساسية للاستهلاك العام، مثل المياه والخبز والكهرباء والغازولين وأجرة استقلال الحافلات بالمدن الكبرى. ومن شأن إلغاء هذه الإعانات وحدها توفير قرابة 12 مليار دولار سنويا للحكومة. إلا أنه في الوقت ذاته سيرفع تكاليف المعيشة على الأسر الأكثر فقرا بنسبة تقارب 20 في المائة.

وطبقا لما أعلنته وزارة الصناعة، فإن رفع الإعانات بمقدوره أيضا الإضرار بـ23 صناعة كبرى، بينها الحديد والصلب والصناعات الكيماوية والدوائية والبناء والنقل العام. وربما تجد بعض الصناعات نفسها خارج السوق بسبب الواردات الأرخص القادمة من دول مثل الصين والهند. وفي وقت يفقد فيه الاقتصاد الإيراني نحو 3 آلاف وظيفة يوميا، فإن انهيار شريحة عريضة من القطاع الصناعي بإمكانه دفع سوق العمالة نحو أزمة أعمق.

يذكر أنه حاليا تقف معدلات البطالة عند مستوى 15 في المائة. ويمكن أن يسفر انهيار الصناعات المعتمدة على الدعم إلى دفع هذه النسبة إلى 20 في المائة أو أكثر.

وإحقاقا للحق، فليس هذا كله من صنيع أحمدي نجاد، ذلك أن جزءا كبيرا من الأزمة الراهنة يعود إلى الركود العالمي الذي ضرب جميع الدول تقريبا. ومع ذلك، يبقى من المؤكد أن تبذير أحمدي نجاد السابق يتحمل بعض اللوم، وبعض المسؤولية. وليس بإمكان أحد إغفال حقيقة أن سياسة أحمدي نجاد الخارجية القائمة على الاستفزاز تركت تداعيات سلبية على الاقتصاد عبر خلقها قناعة لدى بعض الإيرانيين بأن البلاد تتحرك صوب الحرب، وأن السبيل المثلى هي شراء الذهب وعملات أجنبية.

وكما هي الحال دوما، من المحتمل أن يدفع الإيرانيون الأشد فقراء في النهاية فاتورة أوهام الرئيس.