سلاما للمنجم التشيلي

TT

غطت الميديا العالمية، القصة الكبيرة في الليلة الكبيرة، قصة إنقاذ 33 عاملا من أحد مناجم الذهب والنحاس المنهارة في صحراء تشيلي.

القصة حافلة بالمعاني والدلالات، 33 رجلا ظلوا في قبر جماعي تحت الأرض لنحو سبعين يوما، بعد أن سدت الصخور الثقيلة المخارج إلى سطح الأرض، صبروا وصابروا، في ظلمة الأرض السحيقة والليل البهيم والقلق المقيم، مجرد أن يتصور الإنسان لوهلة أنه تعرض لهذا المصير يصاب بقشعريرة!

تنادى العالم لهم، وجندت الجهود، وشحذ الخيال الإنساني، تفتق هذا الخيال الجبار عن حيلة لطيفة، تكاد تشبه الأساطير، تم صنع كبسولة إنقاذ خاصة بهم، اخترقت جلد الأرض وعظمها حتى وصلت إلى نخاع المنجم.

صعد الرجال إلى الحياة من جديد، وكأن باطن الأرض صار رحم أم ولدت 33 إنسانا من جديد، على وصف إحدى السيدات التشيليات.

صحيح أن الحدث أسطوري وملحمي، نادر الصورة والتكرار، وعملية الإنقاذ خلاقة وضخمة وغير مسبوقة، فكرة وجهدا، ولكن لولا تغطية الإعلام كله، وتوحد المشاهد في بقاع الأرض مع مصير هؤلاء ومتابعة جهود الإنقاذ، لما حظي الحدث بهذه المركزية (مثلا: قناة «العربية» قطعت برنامجا سياسيا عن مصير العراق ولبنان لتبث مباشرة وصول آخر عامل إلى سطح الأرض، وقناة «الجزيرة» فتحت بثا مباشرا).

نعم، الإعلام أوصل الحدث إلى كل الناس، لكن لولا أن الحدث نفسه ينطوي على قيمته الخاصة والاستثنائية لما حظي بمتابعة الناس وشغفهم، يستطيع الإعلام أن يجلب لك الصورة إلى شاشتك ولكنه لا يستطيع إجبارك على إكمال المتابعة!

لا أدري، يقينا، سر هذا «التوحد» العالمي مع مصير عمال تشيلي، وتحولهم إلى نجوم للجنس البشري، حتى إن ماريو سيبولفيدا وهو أحد العمال الناجين، يتمتع بحس فكاهي حسب وصف الإعلام، قال للصحافيين بعد خروجه من باطن المنجم: «أرجوكم لا تعاملونا كنجوم، نحن عمال، ويجب الانتباه لوضع وحقوق العمال». لكن هيهات...

ربما كان سر التوحد الإنساني معهم - إضافة للبعد التشويقي ومشاهدة فيلم «أكشن» حقيقي على الشاشات - هو في فقدان الإنسان المعاصر لنماذج القدوة التي تذكره بإمكانات الإنسان المدهشة وقدرته على تجاوز الصعاب مهما كانت جسيمة بشيء من الصبر والأمل.

إنها قصة تعيد إنعاش الأمل في عالم فقد فيه الإنسان الأمل وغلبه القلق والوجل من الحروب والفقر والأزمات الاقتصادية الجارفة والأمراض المخيفة.

ما زال الإنسان قادرا على صنع معجزاته، تلك هي رسالة الرسائل من ملحمة المنجم التشيلي، وأظن الإنسان العربي والمسلم، الساخط اليائس دوما، أول من ينبغي له أن يقرأ هذه الرسالة جيدا، فلكل مجتمع مناجمه المنهارة، التي تنتظر كبسولة الخلاص إلى الهواء والشمس والنور.

نحتاج فقط إلى الصبر، والإبداع، وشيء من الحس الإنساني اللطيف.

[email protected]