عندما تحول الطفل إلى رجل!

TT

لا تستهينوا بالصغار، فقد يفتح الله على بعضهم فيمدهم بالشجاعة وحسن التدبير.

وسوف أذكر لكم حادثة حقيقية وقعت في شمال السويد عام 1979، حيث ان (بيير هايكا)، وعمره يقارب 50 عاما، وهو يتعامل مع مربي غزلان (الرنّة)، ذهب مع ابنه الصغير (اولوف) ذي الستة أعوام لترميم كوخ خشبي تعهد بترميمه لبعض الرعاة الذين سيقيمون فيه في فصل الصيف الذي بدأت طلائعه.

ركب سيارته مع ابنه وتوقع أن تستغرق رحلته يومين، وبعد أن قطعا 80 كيلومترا أوقفا سيارتهما لأنه يتعذر عليها السير بعد ذلك، واستقلا مركبة جليدية بخارية مع زلاجات وخيمة ومؤن وقطع أثاث قديم، وانطلقا، وجلس الطفل خلف والده يطوقه بيديه الصغيرتين وسط الثلوج الممتدة على المدى.. كانت السماء ملبدة بالغيوم، وبعد أن قطعا مسافة طويلة أشرقت الشمس وسطعت على نحو غير مألوف، فاضطربت عينا (بيير) وتنبه إلى أنه نسي نظارته الشمسية في السيارة، غير أنه لاح له من بعيد الكوخ الذي أتى من أجله، فتحامل على نفسه إلى أن وصل إليه بعد مسيرة لا تقل عن عشر ساعات، ولاحظ (اولوف) أن قيادة والده ليست على ما يرام فسأله عن السبب، فقال له: إنني أكاد لا أرى، وأخشى أنني قد أصبت بالعمى الثلجي، ولكن دعنا نحاول أن ننام الآن في هذا الكوخ (والصباح رباح). وبدلا من أن يهلع (اولوف) ويتعلق برقبته باكيا، أخذ يشجعه ويقول له: لا تخف يا أبي، إنني سوف أرتب كل شيء.

كان البرد قارسا جدا، فغطى الطفل والده بالخيمة ليدفئه، واستطاع أن ينتزع بعض الأخشاب المهترئة من الكوخ وأشعل نارا، ثم ألقى كتلة من الجليد في أبريق القهوة ووضعه على النار وأسقى والده ببعض الماء، وبلل وشاحا ومسح به عينيه، ثم انسل إلى كيس النوم وأغمض جفونه.. لم يستطع الأب أن ينام وأخذ يتلوى من الوجع، غير أن الابن أخذ يشجعه ويغني له أغاني الأطفال التي يحفظها ويحكي له القصص الشعبية التي كانت أمه تحكيها له، فأدرك (بيير) قصد ابنه، فتبسم له معبرا عن امتنانه، فضحك (اولوف) حينما شاهد ابتسامة الرضا على ثغر والده.

وفي اليوم التالي تأكد للأب أنه فقد الإبصار تماما، والمشكلة التي أفزعته أن جهاز (اللاسلكي) الذي في حوزته لا يرسل، كما أن السلسلة المعدنية التي في المركبة قد انقطعت، وظل طوال الساعات يحاول إصلاحها دون جدوى وذلك لانعدام قدرته على الإبصار، وهو الذي كان يصلحها سابقا في عدة دقائق، بعدها سقط منهارا، فقال الابن لأبيه: لا بد وأن نتحرك من هنا راجعين وإلا هلكنا، وإذا بهما يتبادلان الأدوار، الأب تحول إلى طفل، والطفل تحول إلى رجل، وانصاع الأب إلى أمر ابنه، فما كان من الطفل إلا أن يلبسه مزلجة، ويلبس هو أخرى، ثم يربط الصغير على وسطه حبلا، ويأمر والده أن يمسك به بيد ثم يسحب بالأخرى المزلجة التي فيها المؤنة، ويسير خلفه وعلى هداه، واستمرا على هذه الحال ساعات قطعا فيها تسعة كيلومترات، والوالد يتمتم بينه وبين نفسه قائلا: إنني لا أبالي أن أموت، ولكن أرجوك يا الله ألا يصاب ابني بمكروه.

في هذه الأثناء أصاب زوجة (بيير) القلق، وخصوصا أن موعد رجوعهما قد حل ولم يرجعا، وتيقنت أن مكروها قد أصابهما، فاتصلت بمركز رجال الإنقاذ فانطلقوا بطائرة (هليكوبتر)، وبعد ساعات من البحث إذا بهم يعثرون عليهما وهما بين الحياة والموت، ورفض الطفل أن يركب الطائرة إلا بعد أن اطمأن أن والده قد ركبها قبله. أدخلا إلى المستشفى، وبعد يومين خرج الابن وبعد عدة أسابيع خرج الأب بعد أن عاد إليه بصره.

وأقامت المدارس الابتدائية في البلد، حفلة استثنائية أشادوا فيها بذكاء وشجاعة (اولوف)، وقلدوه وساما، واعتبروه قدوة لكل الأطفال.

الشدائد هي التي تصقل الناس، سواء كانوا كبارا أم صغارا.

[email protected]