باركنغ

TT

يعتز أحد كبار العصاميين في العالم العربي بأنه كان خلال الصيف يبيع الجيلاتي في شوارع بيروت لكي يؤمّن رسوم الجامعة الأميركية في الشتاء. في الآونة الأخيرة اطلعت على استفتاء قامت به مؤسسة محترمة حول المشاكل التي يواجهها الطلاب. أول شيء تذكرته وأنا أقرأ الأسئلة والأجوبة، علبة البوظة التي كان يحملها صديقي على كتفه وهو ينادي، مبلغا أطفال الأحياء بوصوله: «بوظة ستيك». ولست أعرف معنى الكلمة إلى الآن.

يزعج الطلاب الآن، بالدرجة الأولى، «الباركنغ». يؤخرهم عن الوصول إلى المحاضرات، أولا، زحام بيروت الشنيع. ثانيا، العثور على موقف لسياراتهم! ألا يأتون بالباص أو الترام أو السرفيس؟ ألا يبيعون البوظة في الصيف؟. لا. الحمد لله. وهل من الضروري أن يبيع الطالب «البوظة ستيك» على كتفه في شوارع بيروت، لكي يصبح ذات يوم شخصية معتبرة وثرية؟

لا. طبعا لا. لكن يزعجني كثيرا أن يكون إزعاج الجيل الجديد، في المقام الأول، هو صعوبة «الباركنغ». لم يتحدث أحد عن هم معيشي، وكأنه يخجل من ذلك. لم يشر أحد إلى ندرة المنح الدراسية. لم ألحظ في الأجوبة أي انزعاج من أن حرم الجامعات تحول إلى حلبات سياسية خطرة ومقيتة، بعدما كانت الجامعة في الماضي مصنع الفكر القومي ومنبع الفكر الحداثي.

أعترف أنني شعرت بأن جواب «الباركنغ» كان مهينا على الرغم من كونه صادقا وعفويا. فلماذا يجب أن تكون هموم الناس اليوم مثلها في الخمسينات أو الستينات؟. صحيح. ثم إن بيروت مدينة مقززة بزحمة السيارات وأخلاق المسيرين. وهي لا تسرق وتغتصب فقط وقت الطلاب وأعصابهم، بل وقت جميع الناس. وطرق القيادة تكدر وتنكد هناء كل من لا يزال مصرا على الأخلاق والقواعد في هذه الغابة الفظة من التنك والسلوك التنكي. والدولة غير قادرة على فعل أي شيء حيال هذا الوباء، ما دامت تعرف - وتخفي - أن عشرات آلاف السيارات تعمل دون تسجيل رسمي، أسوة بمن يمتنعون عن دفع فواتير الهاتف والكهرباء والمياه، وبينهم نواب وسياسيون أماجد.

على الرغم من كل ذلك، كنت أتمنى أن تكون أولويات الطلاب الجامعيين مختلفة. أن يكون الإزعاج الأول مصدره سقوط الخطاب السياسي وسفول الخطاب الوطني. أن يكون الخوف على الوحدة. أن يكون الضيق من أوضاع البسطاء ومخاوفهم ورعبهم من الفقر. أما أن يكون الهم الأول هو «الباركنغ»، باتفاق جميع التيارات، فتحية إلى صديقي العزيز، يوم باع البوظة في صيف بيروت، دون أن يسأله أحد عن همومه.