فبركة صحافية

TT

طالعتنا صحيفة عربية تطبع في لندن الأسبوع الماضي بخبر طويل يعطي الانطباع بأزمة دبلوماسية بين حكومة المحافظين والسفراء العرب، الذين ادعت الصحيفة مقاطعتهم كلمة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أمام المؤتمر السنوي للحزب في مدينة برمنغهام، عائدين إلى لندن.

إلى جانب عدم صحة الخبر، هناك مغالطة، إما متعمدة من الصحيفة المعروفة بمواقفها الراديكالية المحرجة للبريطانيين العرب (كتسميتها لزعيم عصابة القاعدة بـ«الشيخ» بن لادن مثلا) أو تعود لجهل محرري الخبر بالعملية السياسة في بريطانيا وطريقة تنظيم الأحزاب لمؤتمراتها السنوية.

فالسفراء، عربا وغير عرب، لا يتضمن بروتوكولهم الدبلوماسي حضور مؤتمرات الأحزاب، ربما تلبية لدعوة رسمية (وهو أمر نادر). والسفارات تبعث بالصف الثاني أو الثالث من الدبلوماسيين، كلٌ حسب تخصصه، لإعداد تقارير لحكومات بلادهم عن اتجاه سياسة الحزب (سواء الحاكم أو المعارض الذي قد يكون الحكومة بعد الانتخابات). فمثلا قد يحضر الملحق العسكري الندوات التي تناقش استراتيجية الدفاع وميزانية الإنفاق عليها، وقد يحضر السكرتير الثاني مثلا جلسات مناقشة السياسة الخارجية.

وحسب معلوماتي ممن حضروا حفل العشاء، بمن فيهم الصديق خالد الدويسان، سفير دولة الكويت، وعميد السلك الدبلوماسي في بريطانيا (أي الذي يكون بجانب جلالة الملكة في زيارات رؤساء الدول لبريطانيا أو عند تقديم سفير جديد أوراق اعتماده لبلاط سانت جيمس) فإن السفراء العرب كعادتهم السنوية، يعودون إلى لندن بعد العشاء، عندما يكون المؤتمر على مسافة زمنية قصيرة (كبرايتون الساحلية بمسافة 48 دقيقة بالقطار من محطة فيكتوريا) أو في الصباح الباكر إذا كان البلد بعيدا.

أحيانا إذا تصادف أن يكون خطاب وزير الخارجية أو زعيم الحزب في وقت متأخر بعد الظهر في يوم العشاء، يحضر بعض السفراء، إذا سمحت أجندة أعمالهم المزدحمة بالحضور مبكرا. والمسألة متروكة للظروف خاصة في بلد يحسب فيه الإنسان جدول أعماله بالدقيقة؛ والسفراء عادة مشاغلهم كثيرة، وليس هناك بروتوكول محدد للمؤتمرات الحزبية.

باختصار فإن الخبر الذي نشرته الصحيفة، «كلام فارغ» لا علاقة له بما حدث.

ومما زاد الطين بلة أن الصحيفة أقحمت إسرائيل في الموضوع، بادعاء أن قيادات الحزب الحاكم لم يحضروا عشاء السفراء، بينما حضروا حفل عشاء مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين، «مما أثار استياء السفراء» مدعية، كذبا، أن هذا الاستياء (الذي لم يحدث أصلا) كان وراء مقاطعة السفراء لكلمة رئيس الوزراء.

والرسالة التي يحملها مضمون الخبر تدل على جهل محرريه بالعملية السياسية والنشاط الحزبي في بريطانيا.

فعشاء السفراء العرب، فريد من نوعه. فمجموعة سفراء أميركا اللاتينية، أو المجموعة الأوروبية (وهي نسق أكثر تماسكا وارتباطا من الجامعة العربية) لا تقيم عشاء. وإنما تقيمها جمعيات صداقة، كالبريطانية الأميركية، أو العمال أصدقاء إسرائيل، أو الأحرار أصدقاء الهند.

مقارنة الصحيفة لـ«جمعية أصدقاء إسرائيل» في حزب المحافظين، بـ«مجموعة السفراء العرب» خاطئة ومضحكة في بلية جهلها. فأصدقاء إسرائيل كجمعية تقارن مثلا بمجموعة أصدقاء فلسطين، أو بالشبكة العربية لحزب المحافظين، التي يترأسها الناشط المحافظ المصري المولد، الدكتور وفيق مصطفى، وهي تضم قرابة عشرة من النواب البرلمانيين ووزراء وعددا من اللوردات والبارونات. حفل الدكتور مصطفى كان قبل عشاء السفراء العرب مباشرة وحضره وزراء، وبرلمانيون من مجلسي اللوردات والعموم؛ لأنه أقامه داخل المنطقة الآمنة Security Zone التي لا يدخلها إلا حملة البطاقة الممغنطة التي تصدرها وكالة أمن خاصة قبل المؤتمر ببضعة أشهر (أنا وزملائي الصحافيون ملأنا الاستمارات في شهر أبريل/نيسان). أما عشاء السفراء العرب الذي تولى مكتب الجامعة العربية تنظيمه، فكان خارج المنطقة الآمنة. وبسبب انشغال البوليس بحماية آلاف من الساسة والصحافيين، فليس لديهم ما يكفي من إمكانيات لتوفير حراسة لوزير الخارجية أو رئيس الوزراء إذا قرر في وقت قصير short notice حضور مناسبة خارج المنطقة الآمنة؛ خاصة أن حالة الطوارئ كانت قصوى بسبب تهديدات إرهابية.

ولم توجد نافذة زمنية كافية لإحضار وزير الخارجية أو أحد القيادات، فالوقت المتاح في أجنداتهم اليومية للحضور لتحية السفراء لم يسمح بالتنقل لخارج المنطقة الآمنة، التي يرفض البوليس أصلا تجول الساسة خارجها دون تنبيه بعدة أيام.

وهذه البديهية، يبدو أنها فاتت الكثيرين؛ فالقائمون على الأمن ليسوا من لندن وليسوا على درجة عالية من التعليم، وإذا لم يكن مع الشخص بطاقة تعريف بالصورة ممغنطة، لا يسمحون له بدخول المنطقة الآمنة (وهو ما حدث مثلا مع سفيرة المملكة المغربية فلم يكن لديها ومرافقيها بطاقات تعريف معتمدة تقدم لحراس متوسطي التعليم ليس لديهم حرية التصرف أو اتخاذ إجراء استثنائي، فلم تحضر الجلسة التي أرادت الاستماع إليها في مركز المؤتمر).

المدهش أن مكتب الجامعة العربية لم ينسق مع المسؤولين عن أجندة مؤتمر المحافظين، حيث تعارض عشاء السفراء مع عشاء «عمل» (تحدد وقته قبل ثلاثة أشهر) ينظمه زعيم الحزب، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، للوزراء والقيادات ليراجع السياسة معهم لوضع اللمسات الأخيرة على خطابه.

ولولا حكمة عميد السلك الدبلوماسي، السفير الدويسان، وتعاونه، في وقت قصير جدا، مع الدكتور مصطفى لكان حفل العشاء قد تحول بالفعل إلى مأزق محرج.

فمكتب الجامعة ناول العشرات من بطاقات دعوة العشاء، لناشط فلسطيني وآخرين تسبق الآيديولوجيات السياسية التنظيم البروتوكولي في أدمغتهم، لتوزيعها؛ بينما أعطوا الدكتور مصطفى، رئيس الشبكة العربية في الحزب الحاكم، ما يعد على أصابع اليدين من دعوات. وإذا بأغلبية الحضور، من نشطاء فلسطينيين وبعثيين، أغلبهم من أعضاء حزب العمال المعارض (!) في حفل عشاء لحزب الحكومة، يحضره أليستر بيرت، وزير الدولة للشؤون الخارجية للشرق الأوسط. وأنقذ الموقف حضور الدكتور مصطفى مصطحبا البرلمانيين الذين كانوا معه (في حفل الشبكة العربية للمحافظين في المنطقة الآمنة) يتقدمهم الصديق ديفيد ليدينغتون، وزير الدولة للشؤون الخارجية لأوروبا. ولولا حضورهم لكان الوزير بيرت، من حزب الحكومة، وجد نفسه محاطا بأغلبية من أعضاء الحزب المعارض. فالدكتور مصطفى تولى دعوة كثير من المحافظين (خاصة أنهم، من زعيمهم حتى أصغر النواب، يكنون للسفير الدويسان كل الحب والتقدير) الذين فات مكتب الجامعة دعوتهم (كالناشط السياسي، المحامي، جيريمي برادشو، رئيس نادي بريطانيا، وهو ناد اجتماعي سياسي لحزب المحافظين يعتبر من أشد التنظيمات صداقة للعرب).

وهناك عام كامل قبل مؤتمرات الأحزاب السنوية 2011 كي يستعد مكتب الجامعة بإجراءات فاعلة، وكي يستوعب بعض الصحافيين تفاصيل ومفردات الحياة السياسية في البلد الذي يعيشون فيه ويغطون وقائعه بأقلامهم.