النص التحتي وصوت الموسيقى

TT

عقب مقالي عن النص التحتي، أرسل لي قارئ عزيز يطلب مني تعريفا له، وهل هو مصطلح مسرحي، وعندما تأخرت في الرد عليه، عاد يطالبني بذلك في إطار من المودة العنيفة. فإذا كان ينتمي لهذا الجيل الذي يعشق الملخصات التي يحصل منها على التعريفات الجاهزة التي تكفل له الحصول على الدرجات النهائية في نهاية العام، فأنا أخبره بأنني عاجز عن إمداده بالتعريف الجامع الشامل الذي ينشده، وأن عليه أن يطيق معي صبرا في رحلتي التي ربما تكون شاقة لشرح ما أقصده، اسمع يا سيدي..

تكون الأشياء جميلة بقدر ما تدفعه فينا من موسيقى، والأفكار أيضا تكون صحيحة بقدر ما تدفعه فينا من إحساس بالجمال. في فيلم «صوت الموسيقى»، يبدأ الفيلم بالكاميرا تستعرض في صمت تام التلال الخضراء في منطقة سالزبيرغ بالنمسا، ثم تبدأ الموسيقى هامسة، ثم تشتد قوتها مع صوت جولي أندروز القوي الجميل وهي تغني: التلال تملأ قلبي بصوت الموسيقى.. التلال تملأ قلبي بالأغاني التي غنتها لآلاف السنين.

فهل التلال فعلا تنبعث منها موسيقى ملأت قلب البطلة، أم أن رؤية هذه التلال حركت بداخلها أوركسترا موسيقية كاملة ودفعتها للعمل؟ إذا كانت هذه التلال هي النص الظاهر لنا، فلا بد أن ما ملأت به قلوب البشر من آلاف السنين، هو النص التحتي.

كل فعل على الأرض هو نص مكتوب، وكل نص مكتوب يرقد تحته في مودة نص آخر ليس مكتوبا، بل هو موجود على نحو ما ليساعدنا على الاستمتاع بالنص المكتوب. لا أحد حتى الآن استطاع أن يضع لنا تعريفا لكلمة «الأسلوب»، ومن الشائع أن الرجل هو أسلوبه، أي أن أسلوبك هو في النهاية أنت، أي أن كل ما تحمله من طباع وخصائص لا بد أن ينعكس على حروف كلامك. ولكن ذلك ليس تعريفا، أما أقرب تعريف للأسلوب وجد طريقا إلى قلبي فهو: الأسلوب هو صوت الكلمات على الورق.

إذا كنت ما زلت تقرأ مقالي ولم يكبس عليك النوم بعد، فلا بد أنك أدركت أنني مرة أخرى، أتحدث عن مهنة الكتابة بوصفها فرعا من فروع الموسيقى التي يحزنني أنني لم أتعلمها حتى الآن. هل تعرف أن نجيب محفوظ في فترة توقفه عن الكتابة في بداية خمسينات القرن الماضي، قام بدراسة آلة القانون في المعهد العالي للموسيقى الشرقية، بالتأكيد هو استمع إلى صوت الموسيقى بداخله يقول له في إلحاح: تعلمني يا نجيب.. تعلمني لكي تجيد الكتابة.

في التحليل السياسي لا يوجد نص تحتي، ربما يوجد ما نسميه «ما بين السطور»؛ لأن التحليل السياسي من نتاج الوعي وحده، وقدرتك على استيعابه أو قدرته هو على استيعابك، ناتج أيضا من أنه قد تحقق فيه شرط الأسلوب الجيد وهو صوت الكلمات على الورق، ولكنه في النهاية يريد إقناعك بشيء، أما الكتابة الإبداعية فهي ليست من نتاج الوعي وحده بل يتدخل فيها اللاوعي صانع النص التحتي، ليس ليكون مقنعا بل ليكون ممتعا. وعندما تسألني هل هو نابع من عالم المسرح أقول لك كل ما هو على الأرض من أساليب التعبير قادم بشكل أو آخر من عالم المسرح. أليست حياة البشر مكونة من أفعال وحوار؟ وهل المسرح شيء آخر؟

إن أقرب كلمة مقرونة بـ(sub) تطرأ على ذهنك عند الحديث عن الـ(Subtext) هي كلمة غواصة (Submarine)، هي مختفية تحت الماء بالطبع، غير أنها تقوم بدورها في دعم البوارج الحربية الموجودة على السطح، والصلة بينها وبين هذه البوارج قوية وتتطلب هارمونية وتوزيعا للأدوار، هذا هو ما يفعله النص التحتي في علاقته بالنص المكتوب الظاهر.

ولكن إذا كانت فلوس البشر ووثائقهم بل وعواطفهم قابلة للتزييف والتزوير، هل ندهش عندما يقوم بعض الناس في مجال السياسة على وجه التحديد بعملية تزييف للنص التحتي ليمشي عكس اتجاه النص الأصلي الواضح؟ طبعا الأمر يتطلب قدرا عاليا من الخبرة والحرفة والإبداع، تماما كما يحدث في أي عملية تزييف. هنا ينفصل النص التحتي تماما عن النص المكتوب أو المنطوق ليحدث أثره المطلوب في عقول البشر، ولعل أوضح مثال لقدرة النص التحتي على التأثير هو خطاب التنحي الشهير للرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967، النص الواضح يقول: «اسمحوا لي بالانصراف»، أما ما يصل إلى الناس بقوة، وهو ما يريده كاتب الخطاب، فهو: «اوعوا تسيبوني أمشي»، وهو بالضبط ما فعلته الجماهير، لم تسمح له بأن يمشي.

من المستحيل فصل الخطاب السياسي عن الظروف التي قيل فيها، وكاتب الخطاب على وعي بذلك، كانت الناس تشعر بالضياع بعد الهزيمة المروعة وبعد عدة أسابيع من هستيريا الحرب، وجاء الخطاب ومع أول جملة في الخطاب فهمت الناس ما هو مطلوب منها، كانت بمثابة عملية دوزنة لضبط النغمة المطلوبة كما يسميها الموسيقيون، يقول الخطاب: «لقد تعودنا في أوقات النصر وفي أوقات المحنة (يعني لا توجد هزيمة، إنها مجرد محنة) في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة أن نجلس معا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق». طبعا كل المصريين يعرفون جيدا أنه لم يحدث من قبل أن جلسنا معا وتحدثنا بقلوب مفتوحة، غير أن كاتب الخطاب على يقين من أن هناك علاقة تكاذب تربط الشعب بالقيادة، وهي علاقة تسمح للطرفين أن يتبادلا الأكاذيب وكأنهما يتبادلان الأنخاب، النص التحتي هنا يقول: «أنتم بالطبع لا تصدقون كلمة واحدة مما أقول غير أنكم تعرفون جيدا ما أطلبه منكم».

ويمضي الخطاب ليقول: «فالثابت الآن أن حاملات طائرات أميركية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربي، كما أن طائرات بريطانية أغارت في وضح النهار على بعض المواقع في الجبهة السورية والجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأميركية بعمليات استطلاع فوق بعض مواقعنا».

أريدك أن تلاحظ استخدام كلمة «فالثابت» واستخدام جملة «في وضح النهار» أي أنه لا يمكن الشك في كل ما قيل. لقد هزمنا لأن الإنجليز والأميركيين ساعدوا العدو. هنا يكون تأثير النص التحتي قويا إلى الدرجة التي يلغي فيها النص المنطوق؛ وهو رغبة الزعيم في ترك السلطة. رجل هزمته أعظم قوى على وجه الأرض، هل نتخلى عنه ونتركه يتنحى؟.. مستحيل..

هذا هو بالضبط ما عمل من أجله كاتب الخطاب بوعي وبحرفة عالية.