جده في ماليزيا

TT

المتأخرون في العصر أمثالي، لا يزالون يكتبون بالحبر الناشف؛ لأن الحبر السائل، على جماله، بطيء وغير عملي، إلا في رسائل الحب، التي لم يعد يكتبها أحد ولا يتلقاها أحد. فهذه تبعث الآن على الجوال، أو على بعض شاشات التلفزيون، التي تحولت إلى صندوق بريد مفتوح، مثل النهر الذي يحمل فضلات المدينة على مدخل جاكرتا. إلا إذا كان إخواننا الإندونيسيون قد وجدوا طريقة لسقفه أو لتحويله أو لإقناع وزارة الصحة بضرورة العثور على صرف آخر.

لم يكن الحبر السائل هما. فقد كان القلم سيالا أيضا. وكانت هناك أنواع قليلة ومعروفة، ولا داعي للحيرة، إذا ما اعتدت أحدها. أما أقلام الحبر الناشف فهي هاجس الكتَّاب. خصوصا المياومين منهم. وكلما وصلت إلى بلد ذهبت فورا إلى مكتباته ومقلماته. أحيانا يناسبني الحجم لكن النشاف كثير. وأحيانا الدفق مناسب والحجم متناقض مع الأصابع الضخمة، التي سرعان ما تعقر. وإذا ما عثرت على قلم «مثالي» اشتريت منه كميات، ثم لا ألبث أن أكتشف أنه يجف مع الوقت، ولا يعود له من الأقلام إلا شكلها وغلافها الخارجي، أما الماسورة فمثل التضامن العربي، لقد أسمعت لو ناديت حيا.

صار لي من التجارب مع الأقلام والبلدان ما يكفي لمحاضرة عن أنواعها وأفرعها. ومع الوقت توصلت إلى قناعة بالبحث عن القلم الجيد تحت باب الجنسية ومكان الصنع: الألماني جيد، الياباني ممتاز، الفرنسي جميل بلا جدوى، والصيني ليوم واحد.

وخوفا من الخطأ والانقطاع، حفظت أرقام الأقلام التي لا غنى عنها. وصرت أحمل مؤونتي منها. لكن إذا طالت الإقامة صرفت المؤونة، وتفضل اذهب إلى دور القرطاسية من جديد وجرب كل ما هو أمامك من أنواع، كي تعثر على قلم ليس ناشفا تماما ولا سائلا كثيرا ولا ضخما يعقر ولا صغيرا يهلك.

جربت مرات كثيرة العودة إلى الحبر السائل، فتأكدت أنه بطيء لا ينفع إلا في رسائل الحب. وهذا والله زمن مضى منذ زمن يا أخا العرب. وهكذا عدت مهزوما إلى القلم الناشف، الذي هو أرخص الأقلام وأكثرها عملية. وذات مرة انقطعت من الصناعة اليابانية والألمانية فوقعت على قلم يوحي اسمه بأنه فرنسي. قلت نجرّب والله المستعان. وإذا أنا أمام اكتشاف نادر وقلم مثالي. أما المفاجأة فإنه ليس فرنسيا ولا ألمانيا ولا يابانيا. إنه ماليزي. ولعل يوما يأتي نصنع فيه قلما عربيا.