من هم الأسرى الحقيقيون؟

TT

حين سألت في مقالتي الماضية «إلى متى مؤامرة الصمت هذه؟»، الصمت عن 11 ألف أسير من المدنيين الفلسطينيين تم اختطافهم من بيوتهم تحت جنح الظلام من قبل المخابرات الإسرائيلية، الذين يعانون أقسى أنواع التعذيب على يد جلادين عنصريين ساديين في السجون الإسرائيلية، كنت أشير إلى أن الصمت الغربي حيال هذه الوحشية ناجم من أن الضحايا هم مدنيون عرب وحسب! ولكن ردود بعض المدونين العرب على مقالي ذاك ذكرني بصمت أخطر وأعتى، ألا وهو صمت العقل العربي. وهذا الصمت هو الأخطر، لأنه مؤشر لتصدع في الفكر والهوية والانتماء. فحين يضحي شاب فلسطيني بنفسه كي لا يهدم بيت في حي سلوان بالقدس، وحين تجابه فتاة فلسطينية عزلاء آلة القهر العسكرية الإسرائيلية بمفردها، فذلك لأن كلا منهما مؤمن بأرضه، وعروبته، وواجبه تجاهها، وليس فقط تجاه أسرته وبلدته، وإنما تجاه فلسطين، وهي وديعة أمته ومسرى نبيه. ماذا نقول نحن لهؤلاء الذين ينتظرون الفرج من أعمالنا وهم يقبعون في غياهب سجون العنصرية الصهيونية؟

إن الوحشية والظلم والابتزاز الذي يتعرض له الأسرى العرب والأسيرات العربيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أشد وقعا وأكثر إيلاما من الظلمة التي عانى منها عمال المناجم الثلاثة والثلاثين في تشيلي منذ الخامس من أغسطس (آب) الماضي، الذين انتهت مأساتهم - بحمد الله - بنجاة الجميع في 14/10/2010، ولكن هذه المأساة ما كانت لتنتهي لو لم يتم تسخير العلم والمال والإرادة، لإنقاذ هؤلاء، ولو لم تعبّر تشيلي، رئيسا وحكومة وشعبا، عن حرص لا نظير له لإنقاذ حياة كل واحد من هؤلاء، مهما كلف ذلك من جهد وعمل. ولو أن مأساة هؤلاء قوبلت بأي نوع من التراخي، كالذي نشهده من قبل النظام الرسمي، أو الاستهتار، كالذي قرأته - للأسف - في ردود طالبت أن ننسى الأسرى الفلسطينيين وننشغل «بمشكلاتنا الكثيرة»، كما يطالبنا مرارا وتكرارا ليبرمان ونتنياهو بالضبط، لو كان التشيليون بهذا الدرك الأسفل من التراخي والاستهتار لما نعمت أسرهم وبلادهم بعودتهم جميعا سالمين. وبالإضافة إلى هذا الإنجاز التشيلي على المستوى الإنساني، الذي لا يمكن تضخيم قيمته، لأنه يجسد الفرق بين الفناء والحياة، فإن الإنجاز وضع تشيلي على خريطة الدول المحترمة فعلا، الحريصة حقا على حياة الإنسان، والمبدعة في إنقاذ هذه الحياة مهما كلفها ذلك من جهد.

وبالمقابل، فإن إهمال بعض العرب للآلاف من المختطفين العرب، والمئات منهم نساء وأطفال، وعدم ظهور العمل الرسمي والشعبي، على حد سواء، الجاد المخلص والمثابر لإثارة زوبعة في ضمير الرأي العالم العالمي وبرلماناته، إلى أن يتم الإفراج عن هؤلاء المخطوفين والمعذبين ظلما وعدوانا، إن هذا الإهمال لا يطيل مأساة هؤلاء الأسرى من أهلنا فقط، وإنما يحرمنا احترام العالم وتقديره، فكلما أثرنا مسألة ظلم واقعة على أهلنا في فلسطين مع مفكر أو إنسان غربي، يسأل ماذا فعل العرب حيال ذلك؟! العرب الذين يملكون القدرات المالية والسياسية الضخمة ماذا فعلوا لدعم إخوانهم، وأهليهم، وماذا فعلوا للحفاظ على أرضهم في القدس، والخليل، والنقب، والجليل، وبيت لحم، وفي كل مكان في فلسطين؟

ومع كل هذا، حين كتبت عن الأسيرات الفلسطينيات ومعاناتهن، أتت ردود البعض، وأشك في أن البعض منها ردود عربية، رغم ظهورها بأسماء عربية، تصب في خانة الاختراق الثقافي على الأقل، وتسألني بعض الردود لماذا لا أركز على «معاناة» المرأة في سورية، وهم لا يعرفون شيئا عن وضع المرأة في سورية، إلا من خلال ما يبثه لهم الإعلام الغربي، ومن الواضح خلال السنوات الخمس الماضية لماذا تناول الغرب سورية دون غيرها.

لا يتسع المجال هنا لوصف ارتكابات الغرب في غوانتانامو، وأبو غريب مثلا، وحروبه الوحشية بكل المقاييس في العراق وأفغانستان وباكستان، هذا الغرب الذي يدعي حرصه على حياة فرد واحد هنا وآخر هناك، وبالطبع فإن ما يرتكبه الغرب، لا يبرر لأحد، كائنا من كان، ارتكاب الظلم ضد أي إنسان كان وفي أي مكان، أو موقع كان، وهذا بالضبط الموقف الذي أعيشه، وليس الذي أكتب عنه فقط. أما هؤلاء الذين يمنحون جائزة نوبل لمن وقف ضد كاسترو والثورة الكوبية، أو ضد إيران، أو ضد الصين، أو بشكل عام ضد حكومات يعاديها الغرب، فهم أنفسهم الذين ينفقون الأموال الطائلة على تمزيق العرب بالفتنة والانفصال، هم أنفسهم الذين يسلحون إسرائيل بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، وهم أنفسهم الذين يحاصرون العرب وينزعون سلاحهم، ويسيئون لنبيهم، ويحرقون كتابهم المقدس، وهم أنفسهم الذين يدعمون اعتقال فلسطينيين عُزّل تعصب أعين شبابهم الذين يُختطفون من قبل المخابرات الإسرائيلية ويساقون إلى المعتقلات في منظر يجب أن يخجل منه هؤلاء الذين يبحثون عن ثغرات لدينا ويسامحون أعداءنا على كل ما ارتكبوه من جرائم، ووحشية، ومجازر في العراق وفلسطين، واليوم في اليمن، وغدا قريبا جدا في السودان.

ها هي كلينتون تقول في بروكسل: «إن الأمن بالنسبة إلى إسرائيل مهم جدا، فقد غادروا لبنان والآن هناك حزب الله وصواريخ على الحدود، وتركوا غزة والآن هناك حماس وصواريخ». لا تشير السيدة كلينتون إلى أن إسرائيل تملك مئات القنابل النووية، وكل أنواع الصواريخ والطائرات والغواصات القادرة على حمل الأسلحة النووية، ولا تشير إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي اقتلع حتى اليوم مليون شجرة زيتون من حقول المزارعين الفلسطينيين العزل، ولا تشير إلى هدم إسرائيل، وهي تدلي بتصريحها في بروكسل، أربعين بيتا في النقب، ولا تشير إلى موافقة نتنياهو على هدم اثنين وعشرين منزلا عربيا في حي السلوان بالقدس، ولا تشير إلى قيام قوات الاحتلال بالقتل اليومي للمدنيين الفلسطينيين العزل.

أولا يرى هؤلاء ماذا يجري في السودان من تفتيت لأرض وثروات وشعب السودان، حيث يهدد أوباما هذا الشعب، إما الرضوخ للانفصال، أو قتل الملايين منه؟! أولم تعلن هيلاري كلينتون من نيويورك أن «تقسيم السودان حتمي»، وأن «الانفصال سيتم بعد الاستفتاء»؟! أولم ترسل سفيرتها، سوزان رايس، لوضع الحدود بين «الشمال» و«الجنوب»؟! ورغم كل تصريحات الحكومة السودانية بأن الاستفتاء في منطقة أبيي سيكون مستحيلا في يناير (كانون الثاني)، فإن الإدارة الأميركية والمتعاونين معها ماضون في مخططهم لإرسال قوات دولية إلى السودان بهدف تفتيته، والقضاء على وحدة شعبه وأراضيه. هل يجب أن نرى المستعمرين يحتلون وينتهكون ويقسمون بلداننا واحدا تلو الآخر، حتى نؤمن أننا نحن جميعا المستهدفون، وأنهم لا يميزون بين عربي وآخر، إلا بمقدار ما يقدم من خدمات لهم، وخلال فترة تقديم الخدمة فقط، ثم يلقون به جانبا؟

إذا كانت الأسماء التي ترد علي مستعارة، فسأكون سعيدة، أما إذا كانوا حقا عربا، ويكتبون بأسمائهم الحقيقية، آنذاك سأؤمن أنهم هم الأسرى الحقيقيون، معصوبو الأعين، المكبلة عقولهم بالأوهام في معتقلات الغرب الدعائية، وأن اختراق الغرب أوصل بعض العرب إلى حد جلد الذات، وإلى حد ضياعهم عن أولوياتهم، وإلى حد تعاميهم عن قضاياهم الأساسية، وانشغالهم بأمور خلقت خصيصا لإشغالهم عن مخططات خطيرة تحاك وتنفذ ضدهم، وضد وجودهم، ومصيرهم، ومستقبلهم.

إن وضع أهلنا في فلسطين، والسودان، واليمن، والعراق، وغزة، هو كوضع عمال المناجم الذين كانوا محاصرين في أعماق مناجم تشيلي، والمطلوب هو تسخير كل مقدرات هذه الأمة الفكرية والمعنوية والمادية لابتكار السبل من أجل إنقاذهم من هذا الحصار، وكل ما عدا ذلك يصب في مصلحة العدو ويسهم في تقويض الوجود والمستقبل العربيين.