الاعتدال شرط من شروط النهضة

TT

الحديث عن مضمون الاعتدال لدينا، نحن المسلمين، هو حديث عن المنهج الوسط الشامل. لأن الوسطية ليست عبادات فقط، بل منهج تفكير وتربية وسياسة. لها إطار عام تتشكل فيه عقلية المسلم، وتنتظم فيه حياته.

وواقعنا اليوم، المتمثل في إهدار طاقاتنا الذهنية، شاهد حي على ما نمر به من أزمة في التفكير وطرائقه. لا يختلف في ذلك تعاملنا مع قضايانا الشخصية، أو مع القضايا الكبرى. لذا فإن علاج الأزمة لا بد أن يبدأ من البيت والمسجد، وينتهي بمؤسسات التربية والإعلام، لتكرس جميعها منهجا واحدا، هو المنهج الذي قدر الله عز وجل لأمتنا أن تكون عليه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس). فهذه الأمة تمضي بالناس إلى عمارة الأرض بشؤون الدين والدنيا معا.. إلا أن واقع المسلمين اليوم مليء بصور الإفراط والتفريط الفكري والسلوكي، الناتج عن قصور في فهم واستيعاب المنهج المعتدل الذي امتاز به الإسلام.

نجد فئة تفسر الاعتدال بما يوافق هواها، فهو عندهم يعني التنازل عن الثوابت ولا ترى وسيلة لتحقيق الذات إلا بتقليد أسلوب الحياة الغربية، وتقمص الشخصية الغربية بجميع تفاصيلها، والذوبان الكامل في ثقافاتها، والإعجاب بكل ما هو أجنبي، وتظن أن هذه السبيل هي السبيل الوحيدة للموضوعية والاعتدال.

والحقيقة أنها، بهذه النظرة السطحية الضيقة، تمارس تطرفا فكريا في حق نفسها، وفي حق أمتها. ولا تعطي نفسها الفرصة بأن تنظر وتمحص، وتسلك قنوات الوعي التي سلكتها الحضارة الغربية نفسها، من النقد، والإبداع، والبحث، والابتكار، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. بل هي معجبة فقط بالنتائج التي وصلت إليها، دون النظر إلى مقدماتها، تحت تأثير عقدة الوجاهة والمظهر.. وعندما يكون المظهر هو المقياس الحضاري، فإن ذلك يعد تضليلا حضاريا، ينتج صورة من صور التفريط في مشوار النهوض والتقدم.

وعلى النقيض من ذلك، ما يقوم به البعض من التنفير من كل ما هو غربي وأجنبي، بل ويصل بهم الحال إلى تكفير من يقيم علاقات مع الدول التي لا تدين بالإسلام، ومثله الاشتراك في المنظمات الدولية، ويصفون من يرضى بذلك من العلماء بالمداهنة. وهم بذلك غير قادرين على التكيف مع مستجدات العصر، ومواكبة حركة التاريخ، بل إنها بهذه العقلية الغالية تخرج عن المنهج الإسلامي الصحيح، الذي يمثل الاعتدال، وتهدر طاقاتها الذهنية في رهان خاسر، وهي بلا ريب تمارس نوعا من الإفراط والغلو المنافي للوسطية والاعتدال، يقابل ما عليه الفئة المفرطة، ويورث نفس الأثر والنتائج.

وبين هذه وتلك، يبرز الاعتدال، الذي يرى أن المجتمعات لا يمكن أن تظل جامدة، نائية عن التفاعل الحضاري، مع الحفاظ على الهوية، والتمسك بالثوابت. والتحرك الحضاري في إطار العقيدة الصافية المستمدة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.

يتعامل المنهج المعتدل مع الآخر بثقة، ويسخّر ما عنده لهدف نبيل، وهو إعزاز الدين ورفعة الدنيا. ومن هذا المنطلق يكون الاقتباس ونقل المعرفة والتعامل مع كل منتجات الحضارة الغربية. وهذا هو المنطلق الذي سارت عليه المملكة العربية السعودية منذ توحيدها على يد الملك عبد العزيز، الذي سبق عصره، وأدرك ببصيرته الثاقبة، وعقيدته الراسخة، أن بلاده وإن فقدت في وقته كثيرا من الأشياء، إلا أنها تملك كثيرا من الأفكار، وعلى رأسها رسالة التوحيد، وأنه لا وحدة، ولا تنمية، إلا بمقوم إيماني صحيح ومعتدل.

لذلك أصبح الاعتدال السعودي نموذج اعتدال القيم والمبادئ الشرعية والنهوض الحضاري، الذي لا يمانع من الانفتاح على العالم بثقافاته المختلفة، والاستفادة من كل جديد، وتسخير ما انتهى إليه العصر من علوم ومنتجات فكرية، لخدمة ثوابت الدين والدولة ودعم موقعها السياسي والاقتصادي، والرقي بواقعها الاجتماعي والسلوكي، من خلال مد الجسور مع الآخر وإقامة العلاقات والمحافظة عليها. وهو ما أسس له الملك عبد العزيز ورسخه، وسار عليه ملوك الدولة السعودية المتعاقبون من بعده، ومنها قوله: «إن للدول الأجنبية المحترمة علينا حقوقا، ولنا عليهم حقوق؛ لهم علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود (إن العهد كان مسؤولا) وأن المسلم العربي يشين بدينه وشرفه أن يخفر عهدا، أو ينقض وعدا. وإن الصدق أهم ما نحافظ عليه. وإن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب، ومصالح رعاياهم المشروعة، محافظتنا على أنفسنا ورعايانا. بشرط أن لا تكون تلك المصالح ماسة باستقلال البلاد الديني، والدنيوي. تلك حقوق يجب علينا مراعاتها، واحترامها، وسنحافظ عليها ما حيينا.. إن شاء الله». (خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز).

وكما هو مدرك؛ فلا وجود للدولة الفاضلة التي لا أخطاء فيها ولا انحرافات.. والسعودية ليست استثناء، إلا أن قيام السعوديين بترسيخ قيم الاعتدال، ودعمها بالبرامج والأفكار خلال مشوارهم التنموي في بناء الدولة، قد ساهم بشكل كبير في نجاح مشروعهم التحديثي واستمراريته. فالنموذج السعودي النهضوي في عالمنا اليوم، هو شاهد حي وملموس على أن الاعتدال شرط من شروط النهضة في مسيرة الأمم.