الاستثمار وتنويع القاعدة الاقتصادية

TT

يتساءل الكثير، لا بل يتعجب، لماذا لم تنجح المملكة في تنويع قاعدتها الاقتصادية رغم كل المصروفات الهائلة على مر السنين، وخاصة منذ مطلع السبعينات الميلادية من القرن الماضي؟!

ويقصد بالتنويع هنا الابتعاد قدر الإمكان عن الاعتماد على قطاع البترول ودخله في تنمية المملكة، ليس احتقارا له لأنه مضر، فنحن في السعودية لا مشكلة لنا مع البترول، بل ندعو له بطول العمر كما ذكر ذلك ولي الأمر - حفظه الله - بل لأن الحكمة الاقتصادية تنصح دائما بأن ينوع الإنسان من مصادر دخله، وألا يعتمد إن أمكن على مصدر واحد. وكذلك لأن قطاع البترول في السعودية يستمد نموه بالكامل تقريبا من اعتماده على السوق الدولية المتقلبة بين الحين والآخر.

والذي ينظر في الإحصاءات السعودية، وخاصة الدخل السنوي من البترول، يرى بكل وضوح التذبذبات الحادة. وهذا التذبذب يقود إلى صعوبة تقدير الميزانية السنوية ويخيف مخطط التنمية بإدخال عدم اليقين من خلال صعوبة تقدير الدخل الوطني لسنوات قادمة.

وحقا إذا عرف السبب بطل العجب، فالاقتصاد السعودي يتبع نظام الاقتصاد الحر، وآمن الكثير في السعودية وخارجها بأن من صفات هذا النظام عدم تدخل الدولة مباشرة في الإنتاج وترك كل شيء تقريبا يتفاعل في هذه البيئة، لأن اليد السحرية ستوازن العرض والطلب للشيء المراد، ويستقر الوضع الاقتصادي. أضف إلى ذلك أن من أدبيات الاقتصاد الحر القول إن مسؤوليات الدولة تتركز في توفير الأمن للبلد، وكذلك التجهيزات الأساسية التي كانت تسمى بالتجهيزات الأساسية الاجتماعية، مثل الطرق، المستشفيات، المدارس.. إلخ.

أي أن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة هو مسؤولية القطاع الخاص ويجب على الدولة الابتعاد عنها. وتبعت حكومة المملكة هذا الفكر الاقتصادي وبدأت منذ أوائل الخمسينات الميلادية في الصرف قدر المستطاع على التجهيزات الأساسية وتركت للقطاع الخاص حرية العمل في بقية النشاطات الأساسية، مثل التجارة والصناعة والزراعة والخدمات.

ومع كل الاحترام للذين فهموا مبادئ الاقتصاد الحر، فإن الكثير آمن به عاطفيا لهوى في النفس ورفع فكرة عدم تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية إلى درجة القدسية.

والفكر الاقتصادي النير المبني على المنطق لم يقدس في يوم من الأيام ولم يستحسن دائما عدم تدخل الدولة، فلكل اقتصاد خصائصه التي تتطلب التشخيص الدقيق للمعالجة. والاقتصادي المنطقي يؤمن بقدرة اليد السحرية على معالجة المشكلات الاقتصادية بشرط توافر البيئة الخالية من الاحتكارات والتدخلات من أي مجموعة كانت، عمالية أو حكومية أو رجال أعمال.

أضف إلى ذلك، أن اليد السحرية في أكثر الأحيان بطيئة الحركة وقد يتفاقم الوضع الاقتصادي سوءا قبل أن يداوي بلسمها الجرح الاقتصادي. وهذا ما حدا بذلك المفكر الاقتصادي العبقري (كينز) بالقول بأننا كلنا أموات في المدى الطويل، إذ إنه من دعاة تدخل الدولة المباشر في الشأن الاقتصادي، وخاصة في الظروف الاستثنائية. واحتجنا إلى ذلك التدخل في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، وكذلك هذه الأيام في مطلع القرن الحادي والعشرين، وخاصة منذ 2007.

إذن لنجاح عمل اليد السحرية يجب توافر البيئة، وكذلك المدة الزمنية الكافية، ودون ذلك تصبح اليد السحرية أداة شعوذة لا أكثر ولا أقل يتغنى بها بائعو الوعود الكثيرة ليستغلوا بها عواطف البسطاء من مستمعيهم.

ابتعاد حكومة المملكة عن الاستثمار (الصرف) على القطاعات الإنتاجية لإيمانها بمبدأ الاقتصاد الحر، أو لأن متطلبات بناء التجهيزات الأساسية لا تترك لها أموالا لاستثمارها في القطاعات الإنتاجية سنة بعد أخرى، تركها معتمدة اعتمادا كليا على الدخل من البترول.

في حين أن القطاع الخاص، المفروض أنه هو الذي سيستثمر في القطاعات الإنتاجية، تلك القطاعات التي هي الدعامة الأساسية لتنويع القاعدة الاقتصادية، لم يكن قادرا على تنفيذ ذلك الهدف لأنه أولا لا يملك الأموال اللازمة لمقابلة متطلبات الاستثمارات الضخمة، وثانيا لأن رغباته وأهدافه تختلف عن تلك الخاصة بالاستثمار من أجل التنمية.

فالقطاع الخاص يطمح للربح السريع وليس عنده القدرة على الصبر لمدة طويلة مثل الدولة التي تهدف إلى التنمية الكلية. وطبعا ليس صحيحا أن مجموع خير كل جزء يقود إلى، دائما، خير الكل كما ينادي به بعض منظري الاقتصاد الحر لإقناعنا بترك القطاع الخاص يعمل بكل حرية وستكون النتيجة في النهاية الخير للجميع.

قد يكون مجموع الأجزاء يساوي الكل في العمليات الحسابية بالأرقام المجردة، لكنه لا يصح حينما نتكلم عن تنمية وتطور البلاد، فهناك عوامل أخرى أكبر وأكثر وأنبل من مجرد أرقام صامتة في التنمية، فليس حقا أن غنى الأفراد سيقود إلى غنى المجتمع، فغنى الفرد قد يقود - إذا غابت التشريعات الضرورية ذات الكفاءة، وهي في أكثر دول العالم غائبة بالكامل أو لا تستطيع أن تغطي كل حالة - إلى تركيز الثروة في أيد قليلة.

وهذا بدوره سيقود إلى عدم عدالة توزيع الدخل، وبدوره إلى الشعور بالغبن والحرمان، وإن استمر هذا الشعور سيؤدي إلى عدم استقرار المجتمع.

ومهما قيل عن عظمة الولايات المتحدة الأميركية اقتصاديا التي كانت تباهي بقدرة نظامها الاقتصادي الحر على التكيف لمقابلة التغيرات (مرونته) ليقود في النهاية إلى خير المجتمع، فقد فشل هذا النظام ولو جزئيا مع مرور الزمن حين سيطر 1 في المائة من مجموع الشعب الأميركي على نحو ربع مجموع الدخل الوطني.

فالدخل الوطني لدولة ما مهما كبر لا يقود منطقيا دائما إلى رفاهية المجتمع، وهو الهدف الأنبل لكل تنمية، ما لم نعرف التفاصيل خلف هذا الرقم، مثل ما هي مصادر الدخل، من يتحمل الضرائب، وما هي نوعيتها وصفاتها، هل هي استهلاكية أو لا، وما هي الشرائح السكانية ونسبة حصتها في مجموع الدخل.. إلخ.

إنني لا أنكر أن القطاع الخاص في السعودية قطاع حيوي ويتصف بالكفاءة مقارنة بالقطاع العام، لكنه غير قادر ماليا، وغير ذلك، على تنويع القاعدة الاقتصادية في المملكة بمفرده، ولهذا فالاختباء وراء قدسية فكرة الاقتصاد الحر الداعية إلى عدم تدخل الدولة المباشر في النشاطات الاقتصادية، هو فكرة خاطئة وقادت وستقود إلى عدم تنويع القاعدة الاقتصادية في المملكة. وإذا استمررنا على هذا المنوال، فسيبقى الاقتصاد السعودي رهينة لما يحدث في الاقتصاد العالمي، وخاصة استهلاك البترول. إذن ما هو الحل؟

بدأت بشائره منذ سنوات قليلة (استثناء من ذلك إنشاء «سابك» سابقا) وعلى استحياء لنسمع بين الحين والآخر مشاركة الدولة في دعم إنشاء بعض الشركات مع القطاع الخاص عن طريق صندوق الاستثمارات العامة خاصة. والذي يجب فعله وليس على استحياء، هو وضع الدولة خطة استثمارية واضحة تقود مباشرة إلى خلق نشاطات اقتصادية منتجة مباشرة بمشاركة القطاع الخاص (وهذا أفضل) أو دونه. وفي الوقت نفسه تستمر الدولة في الاستثمار فيما يعرف في الفكر الاقتصادي الحر بأنه مسؤولية الدولة، مثل الطرق والمدارس والمستشفيات.. إلخ.

فالدولة السعودية هي المالكة للقدرة المالية المؤثرة، وهي المسؤولة مباشرة، نظرا إلى خصائص الاقتصاد السعودي، عن تنويع قاعدته. ودعنا لا نخدع أنفسنا، فإن استمرار الدولة في سياستها الاستثمارية الكلاسيكية لن يقود إلى تنويع القاعدة الاقتصادية في المملكة مهما عظمت أرقام الصرف المالي السنوية، وخاصة الاستثمار في بناء التجهيزات الأساسية، التي هي طبعا من متطلبات التنمية.

فطبيعة الاستثمارات، أي أين أستثمر، في أي نشاط اقتصادي، وما هو نوع وأهمية ذلك النشاط في الاقتصاد، هي أول مؤشر يقودنا إلى معرفة السبب أو الأسباب في لماذا لم تتنوع بعد القاعدة الاقتصادية في السعودية، وهذا القول ينطبق على كل دول العالم.. أبحث أولا عن طبيعة الاستثمارات وليس حجمها فقط.

أرجو ألا يفهم من هذه المقالة أن الهدف من تنويع القاعدة الاقتصادية في السعودية هو الابتعاد قدر الإمكان عن الاعتماد فقط على دخل البترول، وهو هدف قيم في حد ذاته.

فالتنويع هو هدف ضروري، بغض النظر عن هذا وذاك، فهو يحصن الاقتصاد ويعطيه المرونة للتكيف مع تغير الظروف، والأهم من ذلك هو خلق فرص عمل متنوعة لتستوعب العمالة الباحثة عن رزقها، وخاصة حين يتصف الاقتصاد ببطالة هيكلية مثل ما هو حاصل في السعودية هذه الأيام.

إذن يجب أن نتساءل، لكن لا أن نتعجب، عن لماذا لم تتنوع القاعدة الاقتصادية في المملكة العربية السعودية. ومن أجل تنفيذ هذا الهدف السامي، والمكرر دائما في خطط التنمية وميزانيات المملكة سنة بعد أخرى، يجب تغيير السياسة الاستثمارية في المملكة.

الدولة غنية والحمد لله، وتستطيع بالتعاون مع القطاع الخاص أو دونه القيام بحملة استثمارية ضخمة تتصف بترابط أجزاء نشاطاتها بعضها ببعض، وتقوم على الجدوى الاقتصادية قبل كل شيء. وما أنسب هذه الظروف في هذه الحقبة الزمنية للقيام بهذا العمل، حيث إن أكثر شركات العالم تبحث عن الشريك الاستراتيجي لينقذها من بعض ضائقاتها المالية! هي فرصة سانحة أمام حكومة المملكة، وعسى أن تلتقطها بالسرعة القصوى لخيرنا جميعا.

* وكيل وزارة التخطيط الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية في المجلس الاقتصادي الأعلى في السعودية