في السفر عِبَر

TT

أنا ممن يؤمنون بالقول القائل «تغرّب وازدد علما». وهو ما حصل لي مؤخرا في جولة إلى سويسرا وإيطاليا. تجمعهما ظاهرة تعدد قومياتهما ودياناتهما. فسويسرا تتكون من ألمان وفرنسيين وإيطاليين ولادانيين. ولكل من هذه القوميات لغتها وتراثها. وتتكون دينيا من كاثوليك ولوثريين وزونكليين. ولكنك لو سألت أي واحد عن وطنيته لقال إن ولاءه الوحيد هو سويسرا. فالسويسري الفرنسي يرفض بإباء أي فكرة لانضمامه لفرنسا. ولو قامت حرب بين الطرفين لما تردد في بذل دمه دفاعا عن سويسرا. يقال مثل ذلك عن السويسري الألماني والسويسري الإيطالي.

الوطنية السويسرية واجب. والواجب عنده دين. ولهذا اعتمد عليهم ملوك أوروبا. كان في كل بلاط فوج من الحرس السويسري. وما زال البابا يحتفظ بهذا التقليد. الكثير من حرسه السويسريين ملحدون وبروتستانتيون. ولكنني لا أشك قط في أنهم سيدافعون عن الفاتيكان حتى آخر قطرة من دمهم. حتما بخلاف ما أبداه فوج الحراسة الملكي العراقي من الإخلاص في الدفاع عن سيدهم في 1958.

ولا تقل إيطاليا تنوعا. فمنطقة التيرول شمالا تتكون من لادانيين ونمساويين (ألمان). خضعت المنطقة تاريخيا لعدة قوى أجنبية. حارب أبناؤها مع النمسا ضد إيطاليا ولكن تقرر إعطاؤها إلى إيطاليا بعد الحرب العظمى. واحترم السكان هذا القرار وتأقلموا عليه.

ما هو سر ظاهرة التعايش والانسجام والولاء الوطني الناجح في هذه البلدان، لا سيما عندما نقارنه بالمشاكل المتفجرة الجارية في كثير من بلداننا؟ السبب الرئيسي هو احترام الحقوق القومية لهذه الأقليات. ففي التيرول تقرأ أسماء الشوارع والمدن وقوائم الطعام والمأكولات باللغتين اللتين تعتبران لغتين رسميتين، وتحتفظ الأماكن بأسمائها القديمة اللادانية والجرمانية بالإضافة للأسماء الإيطالية.

حدث العكس في الدول العربية المختلطة القوميات. جرى نشاط محموم لإحلال العربية محل اللغات القومية لغير العرب وتبديل حتى أسماء مدنهم. حصل ذلك في العراق ورأينا النتيجة المعكوسة الآن. لكن المحاولة نتجت عن نية حسنة، علما بأن الطريق لجهنم معبّد بالنوايا الحسنة. ساورت ساستنا مخاوف على سلامة الكيانات الجديدة من التمزق فسعوا لدعم الوحدة والهوية الوطنية بفرض لغة واحدة. ولم لا، وهي لغة القرآن؟ لكن هذه النية الحسنة ارتدت على أصحابها عندما واجهت الأقليات صعوبات اللغة العربية وصعوبة تطورها لمسايرة مستجدات العصر. هكذا شعروا في المغرب العربي. أليس من الأفضل لهم أن يستمروا باستعمال الفرنسية؟

إننا غير معتادين على سنة التطور. تصورنا أنه من الممكن تحقيق ذلك فورا. فلو تركنا الأقليات على حريتها لأدركت بمرور الزمن حكمة اعتماد العربية لأسباب عملية. لم نتعظ مما جرى للأقليات البريطانية. فلم يحاول الإنجليز فرض لغتهم على الاسكوتلنديين والويلز والكورنوول. ولكن هؤلاء أدركوا بمرور الزمن حكمة التحول للإنجليزية. لم يحُل ذلك دون تمسكهم بتراثهم وهويتهم القومية في إطار الدولة الموحدة. أدركت عبر العصور أن التشرذم غير مجدٍ. الرفاه يتوقف على الوحدة والأمن والسلام. ولكن هذه هي المشكلة. فكما يتوقف الرفاه على السلام يتوقف السلام على الرفاه. فلا تنتظر من أقلية تعاني من الفقر والظلم أن تشعر بالولاء للوحدة.