اختفاء العرب في «شرق أوسط» إيراني / تركي

TT

1960: كنت في عداد وفد صحافي يعتزم القيام بزيارة إلى بعض بلدان أفريقيا الغربية. كانت الزيارة تندرج في إطار تنمية علاقات الصداقة بين الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية) وأفريقيا المتحررة حديثا من الاستعمار.

قضينا أياما في روما. ثم أياما في زيوريخ (سويسرا)، في انتظار الإذن (الفيزا) بالزيارة. كان لا بد من المرور في أوروبا، لأن الطيران المدني المباشر إلى بلدان أفريقيا لم يكن متاحا، بعد. كانت المفاجأة لنا، في هذه الجولة، وجود شباب ورجال أعمال عرب في استقبالنا، في مطار كل بلد زرناه، إلى جانب مستقبلينا الأفارقة.

من هم هؤلاء العرب؟ كانوا لبنانيين من جيل شيعي مهاجر. معتز بعروبته. يفخر بها في مهجره. ويباهي بالدولة العربية الجديدة التي كانت أمل العرب آنذاك. كان اللقاء أخويا. عاطفيا. لم نسمع كلمة (خوش آمديد) الفارسية التي تعني بالعربية (أهلا وسهلا)، تلك التي استقبل بها الرئيس الإيراني نجاد، في زيارته الشاهنشاهية الأخيرة للبنان. فلم يكن حزب الله قد ولد، بعد.

في عام 1963، انتقلت إلى العمل في لبنان. كان جيل الخمسينات والستينات الشيعي قد شكل الخزان البشري للأحزاب القومية واليسارية هناك. جيل مثقف. معاد لإيران الشاهنشاهية. جيل يتوقد حماسة للمقاومة الفلسطينية. ولكل ما هو عربي. جيل رافض لمحاولة رجل الدين موسى الصدر، استرداده إلى حضن إيران والطائفة.

بعد انفجار الحرب الأهلية (1975)، والدخول العسكري السوري إلى لبنان (1976)، اقتضت لعبة الأمم، خلال الحرب الباردة، اغتيال كمال جنبلاط زعيم اليسار اللبناني المتحالف مع عرفات، في الإصرار على المضي في الحرب. كان الغضب العارم على رجل الدين موسى الصدر الذي نقل ولاءه إلى الخميني، قد استبد بالجيل الشيعي المعارض لموقف الصدر المتحالف مع سورية، في رفض الاستمرار بالحرب.

وهكذا، اقتضت لعبة الأمم أيضا تغييب الصدر قسريا خلال زيارة مشؤومة إلى ليبيا (1978). ووجد الأب الأسد في نبيه بري البعثي السابق المنضوي تحت لواء الصدر، الرجل المدني المناسب لقيادة الطائفة الشيعية، من دون حاجة إلى عمامة الصدر الدينية. غير أن مهارة وذكاء الرجلين لم يمنعا إيران الخميني من استيلاد حزب الله من رحم حركة أمل التي يتزعمها بري.

في الحلف مع إيران الخميني ضد بعث العراقي بقيادة صدام، اضطر الأسد الأب إلى مسايرة واعتماد حزب الله في لبنان. وقادت سورية في الثمانينات، بدعم ومشاركة شيعية. درزية. فلسطينية. حرب استنزاف أدت إلى انسحاب القوات الأميركية، وانكفاء القوات الإسرائيلية (التي غزت لبنان عام 1982) إلى الجنوب.

كان الظهور السلمي لرفيق الحريري، المدعوم سعوديا، كزعيم للسنة اللبنانية، منغصا للمشروع الشيعي الإيراني في لبنان. وكان نجاح حزب الله في فرض انسحاب إسرائيلي من لبنان (2000)، بمثابة تقويض للسلام السعودي / السوري في هذا البلد العربي المعذب. تم إقصاء الحريري عن الحكم. ثم جرى اغتياله (2005).

ولم يكن بالإمكان استعادة التفاهم السعودي / السوري، إلا بعد توفر دلائل ظنية، لدى محكمة الحريري الدولية، بأن حزب الله وليست سورية، هو المتهم الأساسي بالتغييب القسري للحريري الأب. وتوج التفاهم بتهدئة ثنائية مشتركة في لبنان، من خلال زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد في وقت سابق من هذا العام.

كان الرد الإيراني سريعا على استعادة السلام السوري / السعودي: شدد حزب الله حملته على المحكمة الدولية، ملحا على لبنان الرسمي لسحب الاعتراف بها. بل لجأ إلى إعدام عدد من كوادره سرا، بتهمة التجسس لإسرائيل، خوفا من تقديمهم إلى القضاء اللبناني علنا، واحتمال اعترافهم بمشاركتهم في اغتيال الحريري.

في الوقت ذاته، نجح نجاد خلال دعوته بشار لزيارة طهران في تغيير المسارات السورية. فقد شنت سورية حملة مفاجئة على المحكمة. وصدرت مذكرات ملاحقة قضائية سورية ضد ساسة الأكثرية الحريرية بتهمة فبركة «شهود الزور» أمام المحكمة ضد سورية. بعد ذلك، أوفد نجاد مرشحه نوري المالكي إلى دمشق، لضمان دعم سورية له كحاكم للعراق خمس سنوات أخرى، بدلا من المرشح (السوري / العربي) إياد علاوي.

كل ذلك كان تمهيدا لزيارة نجاد «الشاهنشاهية» إلى لبنان، في إجراءات وتظاهرات واحتفالات لا مثيل لها في تاريخ العلاقات الدولية، تأكيدا لهيمنة إيران على الطائفة الشيعية اللبنانية، ومحاصرة لبنان الرسمي، وسط ذهول الطوائف السنية. المسيحية. الدرزية.

ولعل زيارة الأسد إلى الرياض كانت لتقديم تفسير للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز للمواقف السورية الجديدة، أو لتقديم اقتراحات للعودة إلى تثبيت التفاهم والسلام الثنائي في لبنان، في أعقاب الزيارة الإيرانية، أو لإيجاد حل لقضية المحكمة مُرض للسعودية ومصر، وتقبل به إيران، كإنقاذ لسمعة و«شعبية» حزبها في الشارع العربي، من اتهام قضائي دولي يجرمه باغتيال الحريري الأب.

أخيرا، لعل النظام العربي، خصوصا في مصر والسعودية، يتابع باهتمام مؤشرات ودلائل توحي بتشكل نواة مشروع لـ«شرق أوسط» جديد إيراني / تركي، يحل محل المشروع الأميركي الفاشل. هذا المشروع تطلق عليه تركيا أردوغان وصف «السوق الاقتصادية» لترويج استثماراتها في دول الشرق العربي (سورية. لبنان. الأردن)، بالإضافة إلى إيران، فيما يصفه نجاد خلال زيارته لبنان، بأنه «اتحاد» قد يصبح ستارا لاختراق إيران المشرق، مضيفا له عراق المالكي المدعوم إيرانيا.

لا أدري ما إذا كانت زيارة أردوغان لدمشق، خلال زيارة نجاد لبنان، جاءت مصادفة. أو متعمدة. إمعانا في الضغط على سورية. على أية حال، سواء كان المشروع «سوقا» أو «اتحادا»، فالواضح أنه يغيّب المشرق العربي وراء أسماء الجغرافيا السياسية. ويبتلع أقلية عربية (50 مليون عراقي وسوري) في الشرق الواسع لدولتي الكثافة السكانية الإيرانية / التركية (150 مليونا).

قبل شهور، كشفت في هذه الصحيفة، عن حالة الجوع والفقر التي طالت مليوني سوري، نتيجة لجفاف البيئة. والتصحر. وفشل التنمية المائية، على الحدود مع العراق وتركيا. اليوم، ليس من باب التحريض، أن أناشد حمية الرئيس بشار العربية، عدم الانجرار، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وراء إغراء أحلاف أو أسواق إقليمية جديدة، بمعزل عن قوة مصر دولة الكثافة السكانية العربية (80 مليونا)، وعن السعودية دولة الثقل المادي العربي.

يبقى العتب على عمرو موسى. الأمين العام للجامعة العربية يروج لمشروع يمهد لدمج دول الجوار (تركيا وإيران) في المجموعة العربية! ما أشبه العم المصري الطيب بياباني عجوز يحمل فانوسا صينيا، للبحث عن مشرق عربي في بحر مدينة سرت الليبية، مشرق مهدد بهجمة المماليك الجديدة.