ما بين قصر الجبل وشاطئ المدينة

TT

اختار ماريو فارغاس يوسا قراءة كتاب أمين معلوف «الهويات القاتلة» في «مقهى الشرق»، على كورنيش بيروت، صيف 2006. وبعد عودته من بيروت، كانت زيارته موضوع مقاله الدوري في «الباييس» الإسبانية (نشره ملحق «نوافذ» في «المستقبل»). لا جديد في انطباعاته، سوى أن صائغها هو صاحب «نوبل». يتأمل يوسا زحام بيروت وجمالها اللامتناهي وزرقة المتوسط، وتناقضاتها، ثم يقرأ فصلا من «الهويات القاتلة» ثم يقول إنه في بلد «هو أكثر البلدان تنوعا على الكوكب، ويبدو كأنه نسخة مصغرة للعالم بأسره. ولا بد أنه البلد الوحيد في العالم الذي فيه سبع عشرة طائفة دينية معترفا بها قانونيا». وفي هذه الفسيفساء، يعيش القرن الحادي والعشرون، إلى جانب «التعصب الديني والظلامية الأخلاقية التي كانت قائمة في القرون الوسطى». يتذكر يوسا لقاءه بالشاعر جورج شحادة في منتصف السبعينات، الذي يقول له: «كنت أظن أنني أعرف بلدي؛ فقد عشت فيه طوال حياتي.. والآن فجأة لم أعد أعرفه.. أناس عاشوا معا، يختلطون ويتقاسمون كل شيء، انتقلوا بين ليلة وضحاها إلى تبادل الكراهية واقتراف أشد الفزعات وحشية، متحولين إلى أعداء لا مكان للمصالحة بينهم». البلد الذي يعتبر تعدده نسخة عن «العالم بأسره» هو الذي خاض حربا أهلية عن العالم بأسره أيضا. حرب دمرت عاصمته وأحرقت مبانيها الجميلة وحفرت فيها الخنادق ورفعت المتاريس في كل مكان. ومع هذا فهو البلد الذي «قطع شوطا طويلا في التحديث، متجاوزا الشرق الأوسط بأسره، باقيا أحد أجمل بلدان العالم التي حظيت بالتعرف إليها وأكثرها تحفيزا. غير أنه أيضا وفي بصورة لا يمكن تفسيرها للإرث القبلي، ما يعني أنه خائف من نفسه».

هذا لا يعني أنه «بلدان مختلفان، لكنه بلد منقسم على نحو بالغ الشدة». وإذ يقوم بزيارة إلى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في «قصر المختارة» تزداد عنده صورة الغموض الذي يلف لبنان. ها هو في قصر يشبه قصور ألف ليلة وليلة، تعشعش فيه فصول الزعامات والاغتيالات والدراميات التاريخية. وأما سيده الحالي فيملأ جدران القاعات الأثرية رسوما لفنانين من العصر السوفياتي، تمثل ستالين ولينين ومشاهد من تلك الحقبة.

لم لا؟ ألم يكن كمال جنبلاط أحد أشهر أصدقاء السوفيات في الشرق، هو الذي منحه الكرملين وشاح لينين، أعلى وسام في البلاد قبل أن يهوي الاتحاد في ذلك المشهد التاريخي الذي لا يصدَّق؟ ما بين كورنيش بيروت حيث ترتفع أعلى وأغلى العمائر الحديثة وما بين التكدسات التاريخية في قصر المختارة، يحاول يوسا أن يقرأ من جديد كتاب صديقه وأحد كتّابه المفضلين، أمين معلوف. هل يمكن أن نرى في ذلك أيضا توقعا بأن أمين معلوف سوف يحصل على نوبل الآداب في عام قريب؟ هل يبدو ذلك معقولا أو محتملا الآن؟ نعم، يقول كثيرون من أهل الأدب في فرنسا.