«تشيلي» الواد من الأرض!

TT

تابع العالم بأسره، بكل دهشة وترقب وقلق وفرح مجهودات الحكومة التشيلية المبهرة لإنقاد 33 من عمال المناجم بعد احتجازهم في أحد المناجم عقب انهياره عليهم وإخراجهم جميعا أحياء في عملية بحث وإنقاذ ستدخل التاريخ ويتم تدريسها ولا شك. لقد كانت هذه التجربة أنموذجا دقيقا لإدارة الأزمات وإحاطة كافة النواحي بالاهتمام المطلوب. لقد قدمت تشيلي درسا في احترام كرامة المواطن وصونها وتحمل الحكومة مسؤوليتها حتى آخر لحظة وبذل الجهد وإثبات الحضور والوجود حتى يتم إنجاز المطلوب بالشكل السوي.

لقد كان رئيس تشيلي، سيباستيان بينيرا على رأس الفريق الإداري الذي أدار عملية البحث والإنقاذ لمدة سبعين يوما، جربت فيها كافة أنواع الدعم التقني والنفسي والمعنوي والمادي للعمال وأسرهم لإبقاء تواصلهم مع العالم على أفضل قدر ممكن وتجهيزهم لعملية الإنقاذ، التي طالت، وكذلك بالتواصل مع أهم الشركات الهندسية حول العالم بما فيها وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) للمساعدة في تقديم الحلول لإخراج العمال من تحت الأرض. وتم ذلك كله بنجاح مبهر!

إنه مشهد لأهم «ضربة» علاقات عامة كبرى ستجني تشيلي ثمارها، والتي تحول اسمها للمرادف للقصة الجميلة في أذهان العالم اليوم. لم تكن تشيلي كذلك، بل كانت مثالا للحكم العسكري الديكتاتوري المستبد خلال فترة الجنرال بينوشيه، وهو الذي جاء إلى سدة الحكم بعد انقلاب عسكري دموي مدعوما وبقوة من جهاز الاستخبارات الأميركية ليزيح الرئيس اليساري المنتخب ديمقراطيا سيلفادور الليندي ويغتاله بالرصاص في القصر الجمهوري (وهو والد الكاتبة ذائعة الصيت إليزابيث الليندي) وكان عهد بينوشيه دمويا وبامتياز، قضى فيه على الحريات والحقوق، ومات وفُقد الآلاف من الشباب الأبرياء، وبعدها سفك دم شاعر تشيلي وأميركا الجنوبية الأهم بابلونير، الذي كان منفيا وعاد وكان من مؤيدي الليندي وصديقا له.

هكذا كان تاريخ تشيلي الحديث، فهي عرفت ببلاد الديكتاتورية العسكرية المسعورة والتفاح والعنب وسمكة «السي باس» المشهورة من سواحلها! هذه الصورة الحزينة والبغيضة لم تغب عن مخيلة من تابع أحداث إنقاذ عمال المناجم الدرامية، وحتما كانت في مخيلته رئيس تشيلي الحالي سيباستيان بينيرا وهو يقف بالساعات الطويلة تحت حرارة الشمس وبرد الليل في وسط صحراء قاحلة يراقب ويتابع إنقاذ عمال بسطاء وفقراء، وعلنا أمام مرأى ومسمع العالم بحيث تكون أي هفوة أو خطأ أو إساءة «فضيحة» على الهواء وتحفر في ذاكرة العالم الافتراضية بشتى وسائله. كان يتابع كل ذلك ووزراؤه ومستشاروه بل وحتى مندوبون من أحزاب المعارضة معه (أحدهم من أسرة الليندي نفسها في مشهد حضاري وطني مبهر). كانوا عمالا من أصول الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة قبل أن تطغى عليهم ملامح السكان الأوروبيين الذين جاءوا في القرن السادس عشر، عاملهم بمنتهى الرقي والإنسانية، سمح لهم بالتواصل مع أسرهم أولا ثم احتضنهم ودعمهم بكلمات شكر وثناء. نموذج جميل للإدارة والقيادة والنجاح، وعبرة ودرس مهم وفعال لإدارة الأزمات.

مكاشفة وشفافية مستمرة مع وسائل الإعلام، مواعيد واضحة وصريحة، مهام محددة بلا غموض، المسؤولية معروفة لمن والشخص المسؤول واضح (لا غموض فيها) وبالتالي كان النجاح مدويا وبنتائج نالت رضا العالم. رمزية المنجم وتشبهه بالقبر ووجود العمال فيه لمدة 70 يوما، وهي المدة الأطول في التاريخ التي حدثت لهذا القدر من الناس، جعلت خروج الجميع بنجاح وكأنها حياة جديدة كتبت لهم، وهذا حتما سيكون مصدر عبرة ودرسا وإفادة لأمم وشعوب من بعد.

[email protected]