الطريق إلى فينيسيا

TT

يمر الطريق من النمسا إلى البندقية (مدينة فينيسيا التاريخية) عبر عاصمة أبيزو اللادانية في شمال إيطاليا. رغم الحروب الدامية التي خاضتها هذه الولاية فإن كورتينا، العاصمة، تجسد اليوم كل خيرات السلام والاستقرار والمدنية. لا تغص المدينة بالسيارات الفارهة وإنما بالدراجات الهوائية التي يستعملها السكان في كل أعمالهم. البايسكل هو واسطة النقل الوطنية هنا. تحيط بالمدينة جبال الدولمايت الشامخة التي يهواها كل أبطال التسلق والتزلج. وكم تعرضوا على قممها من مآزق ومآسٍ تطلبت عمليات بطولية لإنقاذهم في العواصف الثلجية. يقف في وسط المدينة التمثال القومي الوحيد فيها، ولكنه ليس لأي قائد عسكري أو زعيم وطني أو فاتح جبار وإنما الهر انجيلو دبونا، المنقذ الذي كرس حياته لإنقاذ من انقطعت به السبل في قمم الجبال المثلجة. نصبوا له تمثالا بعد موته في عملية إنقاذ عسيرة. ولم لا؟ يقف تمثاله البرونزي حاملا على كتفه أدوات الإنقاذ: الحبال والفأس.

عبرت الشارع لأخذ صورة له. سمعت أحد الواقفين يتمتم لزملائه: «سامحوه! هذا عربي!»، ففي كورتينا لا يعبر الناس الشوارع إلا في الأماكن المخصصة للعبور وبعد الضوء الأخضر. وعبثا تحاول أن تعثر على عقب سيجارة على الرصيف، ليس لأن التدخين ممنوع في كل الأماكن المسقفة وإنما لأنهم يعتبرون نظافة المدينة واجبا وطنيا. ظلوا يراقبونني ويحدقون فيّ حتى التقطت ورقة الآيس كريم من الأرض ووضعتها في سلة الزبالة. رأيتهم يبتسمون، ولسان حالهم يقول: «لا...! اكو امل أن العرب يتعلمون ويتحضرون!».

مضت بنا الحافلة تلتهم بسرعتها ما بنوا من الطرق السريعة وكأنها عصا موسى تبتلع أفاعي فرعون، تعدو نحو مدينة الأحلام، فينيسيا. ومن لم يسمع بها؟ خلدها الأدباء في رواياتهم والشعراء في أشعارهم والرسامون في لوحاتهم. حتى عبد الوهاب تغنى بها في أغنية الجندول. وأي عربي لم يسمع الجندول؟

امتلأت ساحة سان مارك الشهيرة بالمقاهي الرخية الارستقراطية. مررت بها في أيام التلمذة وتحسرت! آه ما أحلى أن يستطيع الإنسان أن يأكل الآيس كريم تحت مظلات مقهى «فلوريان» العريق النسب والحسب! طاب لي الآن أن أحقق ذلك الحلم. جلست وناديت على النادل: «هاتِ لي يا ولد آيس كريم بالفستق والكرز والقشطة».

جاءني بالحساب. عشرون يورو.

- كيف يا ولد؟ القائمة تقول 14 يورو فقط!

- نعم. ولكن ستة يوروات ثمن الموسيقى.

- ولكن الجوق لم يعزف أي شيء خلال جلوسي!

- العازفون في استراحة الآن. استمر بالجلوس حتى عودتهم لتستمع إلى عزفهم.

- كيف استمر بالجلوس وانتظر؟! الجندول في انتظاري في القناة!

لم أجد بُدا غير أن أدفع عن الموسيقى التي لم أسمعها. ولكن هذا أهون من ثمن البول في فينيسيا. عليك أن تدفع يوروين ليسمحوا لك باستعمال المبولة العامة. ولكن ما العمل؟ كان علي أن أبقى في بغداد وأبول ببلاش.