سياسات إسرائيل الانتحارية سببها الإحباط وليس الإحساس بالقوة!

TT

كل هذا «الاستعصاء» في عملية السلام، الذي يمارسه بنيامين نتنياهو، سببه الحقيقي ليس الإحساس بالقوة الزائدة وابتزاز الولايات المتحدة الدولة الحاضنة لإسرائيل ظالمة ومظلومة، وهي ظالمة باستمرار، وإنما الشعور بأن نهاية الدولة الإسرائيلية باتت قريبة على المدى التاريخي، إن ليس المرئي فالملموس، وأن كيانا بات معزولا على هذا النحو من غير الممكن أن يستمر حتى وإن وضع في كل شبر من الأرض التي يقوم فوقها قنبلة نووية.

إنه وضع انتحاري هذا الذي تتخذه حكومة اليمين الإسرائيلي، ولعل ما لم يفهمه ولم يدركه بنيامين نتنياهو وهذه العصابة، التي واجهتها أفيغدور ليبرمان، هو أن إسحق رابين عندما انعطف نحو السلام تلك الانعطافة، التي أربكت القوى والأحزاب اليمينية فدبرت له مؤامرة اغتياله بتلك الطريقة المعروفة، كان قد رأى بثاقب بصيرته أن فرصة تاريخية قد لاحت فعلا ليصبح الإسرائيليون شعبا ودولة جزءا من نسيج هذه المنطقة وأنه أراد اغتنام هذه الفرصة قبل أن تضيع وتصبح بمثابة سراب صحراء لا يمكن إدراكه.

إن كل وقائع التاريخ القريب والبعيد تؤكد أن كل هذه الصفاقة التي يتعامل بها بنيامين نتنياهو مع عملية السلام، التي باتت رغبة ملحة للعالم كله بكل دوله وشعوبه، لا تفسير لها إلا أنها عمل انتحاري لا بد وأن يؤدي بصاحبه إلى التهلكة والمصير المحتوم، سواء أطال أم قصر، وهذا كان فَعَلهُ أدولف هتلر الذي رفض الاستجابة لمتطلبات الواقع وبقي يصر على مواجهة معظم دول الأرض الفاعلة، فكانت النتيجة تلك الهزيمة المنكرة التي أوصل ألمانيا إليها.

هل من الممكن أن يكون عاقلا هذا الذي يستفز الولايات المتحدة ويعرّض مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط للخطر على هذا النحو، والذي يركل فرصة تاريخية قد لا تتكرر أبدا بقدمه ويرفض استغلالها، والذي بتصرفاته العنجهية يملأ قلوب حتى أطفال هذه المنطقة، التي تشكل فيها إسرائيل مجرد نقطة في بحر، حقدا وتصميما على الثأر، على أساس العين بالعين والسن بالسن، ذات يوم حتى وإن طال الزمن وابتعدت المسافات..؟!

لقد أدرك معسكر الاعتدال العربي، وفي قلبه تقع منظمة التحرير وهذه القيادة الفلسطينية، أن اغتيال إسحق رابين، الذي دفع حياته ثمنا لموافقته على اتفاقيات أوسلو والتعامل مع عملية السلام كخيار تاريخي وفرصة سانحة قد لا تتكرر، قد أعاد إسرائيل إلى طريق التطرف والعنف والحروب مرة أخرى، لكن ومع ذلك ولكسب العالم كله إلى جانب قضية عادلة، فقد كان لا بد من الاستمرار بالعملية السلمية والاستمرار بكشف حقيقة هؤلاء الذين تسلموا قيادة الدولة الإسرائيلية.

إنه لم تكن هناك أي أوهام وكان المعتدلون العرب والفلسطينيون يعرفون حتى أكثر من «الممانعين» أنه لا أمل بأن يتحول الوحش الكاسر إلى قط أليف وأنه من غير الممكن انتزاع ثقافة العنف والتطرف والقتل وسفك الدماء لا من رأس أرييل شارون، المعلق الآن من رموش عينيه بين الحياة والموت، ولا من رؤوس الذين خلفوه في قيادة دولة، إن هي لم تستفد من عبر التاريخ فإنها ستنتهي حتما كما انتهت الدول التي أقيمت كقلاع متقدمة بوظائف محددة ومفتعلة في أرض غيرٍ لا تمت لأهل هذه القلاع بأي صلة.

لكن ومع ذلك فقد كان لا بد من الإصرار على الاستمرار بعملية السلام ليس رهانا على إمكانية التفاهم مع هذه القيادة الإسرائيلية اليمينية والمتطرفة وإنما استجابة لرغبة المجتمع الدولي وللذهاب مع هذه الرغبة إلى نهاية الطريق لإفهام العالم كله أن إسرائيل في ظل هذه القيادة لا يمكن أن تكون جزءا من معادلة سلمية فعلية وحقيقية، وأنه إنْ لم يوضع حد لتصرفات الإسرائيليين الطائشة فإن الإرهاب في هذه المنطقة سيزداد تجذرا وقوة، وأن المصالح الحيوية - ليس للولايات المتحدة فقط وإنما للغرب كله في الشرق الأوسط - ستتعرض لأضعاف أضعاف الأخطار التي تتعرض لها في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العالم أهمية.

وحقيقة أن هذه السياسة التي اتبعها « المعتدلون» العرب قد حققت كل الإنجازات المتوقعة، والبرهان هو هذه العزلة الدولية التي باتت تعيشها إسرائيل، وهو هذا التبني العالمي، حتى في الولايات المتحدة وحتى في أوساط التجمعات اليهودية في الدول الغربية، للقضية الفلسطينية، والإصرار، وليس الرغبة فقط، على أنه قد آن الأوان لوضع حد للطيش الإسرائيلي، وعلى أنه آن الأوان ليقرر الشعب الفلسطيني مصيره أسوة بشعوب العالم كلها وليكون لهذا الشعب دولته المستقلة على الأراضي التي احتلت في يونيو (حزيران) عام 1967 إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

وهكذا فإن إصرار بنيامين نتنياهو على الاستمرار في الاستيطان، بينما الولايات المتحدة ومعها العالم كله تصر على تجميده لتصبح هناك إمكانية للاستمرار بعملية السلام وبالمفاوضات المباشرة، يدل على أن عقلية الانتحار الـ «مسَّادة» باتت تستبد بالإسرائيليين وأن هذا التهور الذي يتحكم بسلوك قيادتهم لا يمكن تفسيره إلا بأنه نتيجة اليأس والشعور بالإحباط والإحساس بأن نهاية الحلم الصهيوني باتت قريبة حتى وإن طال الزمن على مدى المسافة المنظورة.

وحقيقة، وهذه الحقيقة يجب التحدث عنها بصوت مرتفع حتى وإن غضب الذين حاولوا استغلال فرصة اعتبروها لائحة لتسديد حسابات مع ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، أن أداء القيادة الفلسطينية في الرد على مطالبة بنيامين نتنياهو لها بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية مقابل الوقف المؤقت للاستيطان يثير الإعجاب، فالقول للإسرائيليين وللأميركيين أن عليهم قبل مطالبتهم بما طالبوا به أن يزودوا الفلسطينيين والعرب والعالم والأمم المتحدة بخريطة هذه الدولة اليهودية التي يريدون الاعتراف بها قوبل بالتفهم وبالموافقة على أنه هو الرد المنطقي على مطلب الحكومة الإسرائيلية.

وهنا، فإن ما يوضح عبقرية هذا الرد، الذي حاول العدميون ليّ عنقه وتحويله إلى تهمة لملاحقة ياسر عبد ربه بالحملات المُغرضة وتسديد حسابات قديمة وجديدة معه، هو معرفة أنه من سابع المستحيلات أن تستجيب إسرائيل، في ظل هذه القيادة المتطرفة والانتحارية، لهذا المطلب وأن تُودِعَ الأمم المتحدة خريطة جغرافية لها تبين فيها حدودها مع الدولة الفلسطينية المنشودة ومع الدول العربية المجاورة.

لأن اللعبة السياسية مع إسرائيل تشبه لعبة طاولة التنس «البينغ بونغ» بعد أن وصل الصراع في الشرق الأوسط إلى المسرح السياسي الدولي، فقد كان لا بد أن ترد القيادة الفلسطينية على المطلب الإسرائيلي بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية مقابل الوقف المؤقت للاستيطان بهذا الرد، ويقينا أن ما كان سيفرح الإسرائيليين ويحقق لهم جولة في هذه المبارزة الدولية، التي طابعها هو هذا الطابع، لو أن الرد الفلسطيني جاء على طريقة محمود أحمدي نجاد وبعض فرسان الشعارات في المنطقة العربية بالتهديد بذبح اليهود عن بكرة أبيهم وإلقاء أطفالهم في البحر ليكونوا وجبة شهية لأسماك القرش المتوحشة.