فلتنزل «الصفحات الثقافية» من برجها العاجي

TT

«من أراد وصولا فالسبيل الجرائد»، قال يوما صاحب القلم الفذ أمين نخلة مخاطبا أصحاب الكتب. مقولة «رومانسية» لم يعد يوافقها الناشرون والكتاب، وقد تبين لكثير منهم أن المقالات التي تدبج في كتبهم مدحا أو ذما، لا تأتي بشارٍ ولا تذهب بمعجب. قد يفغر قارئ فاه وهو يقرأ هذه العبارة مفترضا أننا نتجنى أو نبالغ، لكن الوقائع تدحض التمنيات. ناشر صديق لا يخفي امتعاضه من إرسال نسخ إصداراته للصحف معتبرا أنها تذهب هدرا، «فهم كتبوا أم لم يكتبوا، المبيعات لا تقل ولا تزيد». الصديقة الروائية لينا كريدية دهشت منذ أيام حين اتصل بها موزعها ليخبرها أن الطلب على روايتها «خان زاده» تصاعد بشكل لافت إثر ظهورها في برنامج تلفزيوني خفيف، يعتمد الظرف والتنكيت. تسخر الروائية اللبنانية متسائلة، كيف أن ما يزيد على 15 مقالا نشرت حول روايتها، في الصفحات الثقافية لكبريات الصحف العربية، لم يكن لها مفعول يذكر، مقابل هبّة مشتريات غير اعتيادية، جاءت بعد أن تكلمت بالكاد خمس دقائق في برنامج للمنوعات ظهرت فيه مع مطربات.

«اللعنة على عصر التلفزيون»، يقول البعض، متناسيا أن على نفسها جنت الصفحات الثقافية. وما عليك سوى أن تفتح محرك البحث «غوغل» لتعثر على عشرات المقالات التي تنتقد «الشللية» و«تبادل المصالح» وتحول هذه الصفحات إلى «مزارع» و«إقطاعيات». أشاهد مسرحية فاشلة ينسحب المتفرجون منها واحدا تلو الآخر، فأجد في اليوم التالي مديحا «عرمرميا» لها يعليها عن كل سقطة. تُرى ماذا سيخطر ببال المتفرج الذي اعتمد على ناقد مخادع ليقضي سهرته؟ وأي مصداقية للكاتب ولصفحته بعد تلك التجربة المرة؟

المرض أكبر من ذلك وأشمل. فمنذ اعتبرت الصفحات الثقافية أن موضوعها هو الأدب مستبعدة الفنون الأخرى، وإن هي حنت على المسرح والفن التشكيلي، لا تعرف لماذا؟ باتت خارج اهتمام الشريحة الكبيرة من القراء والفنانين أيضا. فالخصام المزمن مع الموسيقى وفن العمارة والتصوير الفوتوغرافي، والتصميم على أنواعه، وصولا حتى إلى الآثار، عزل الصفحات الثقافية عن الحياة بتعبيراتها اليومية، وما فيها من ثراء متجدد.

ويوم قررت «الشرق الأوسط» أن تفتح ملحقها الثقافي لكل إبداع إنساني، بدون تفرقة عنصرية بين الفنون، ثمة من استهجن واستنكر، واعتبر ذلك خفة، وبعدا عن الفكر «الجاد». وحين تسأل عن الجدية تفهم أنه من المعيب مثلا أن تكتب عن ابتكارات وأفكار طباخ فيلسوف مثل الفرنسي ديديه لوروا الذي حاز ميداليات بالجملة تقديرا لجهوده، وليس عارا أن تفرد نصف صفحة لشاعر بلا موهبة لا تعرف من الذي نصبه على عرش الشعر. علما بأن فلاسفة كبارا في عالمنا الحديث لم يترددوا في وهب أعمارهم للتفكير والتفلسف في الأكل والطبخ. ولن تنال رضا كبيرا لو سلطت الضوء على مهندس خلاق مثل مروان زغيب، صمم واحدة من أجمل التحف الفنية المعمارية في العالم العربي، على «شاطئ الراحة» في أبوظبي باعتبارك خرجت عن المألوف. لكن لا بأس، في المقابل، بأن تخصص مساحة فسيحة لنقد رواية متواضعة، يحدثك ناقدها عن «السياق» و«الدلالات» و«الأنساق» التي يحتاج الإنسان العادي، لأستاذ في الألسنية كي يفهم معناها والقصد منها. وبالنتيجة ينفر القارئ من الرواية بدل أن يثير فيه المقال شهية اقتنائها.

البرج العاجي الذي تقبع فيه الصفحات الثقافية بعمومها، بات مهترئا وصدئا، تنبعث منه رائحة عفن قديم. فما همي أن اقرأ عن سينوغرافيا رائعة لمسرحية، وأداء ممتاز لممثليها، بعد أن انتهت مدة عرضها. وما قيمة أن يحدثني ناقد عن معرض تشكيلي سأخسر نصف عمري إن لم أره، وهو يكتب عن انتهاء مدته، ويزودني بصورة لإحدى لوحاته بالكاد أتبين تفاصيلها. وهنا أجد نفسي أمام تمرين إنشائي في وصف الألوان والخطوط، لا أعرف جدواه أو الغاية منه.

إن كانت الصفحات الثقافية وجدت خدمة للقراء، فقد ابتعدت أشواطا عن تأدية دورها. وإن هي تفترض بنفسها تثقيف المواطن، فهذا ما لم تعد تستطيعه بعد أن فقدت سلطتها وإغراءها، بعزلتها عن الحراك الحيوي للأفكار وقرارها سجن نفسها في قفص الأدب.

يخبرني صديق مصور، بأنه بات يحمل كاميرته ويبقى مستعدا لالتقاط صورة العمر، حتى وهو يقود سيارته، لأنه يشعر بأن كل مواطن صار مصورا ينافسه في مهنته، بعد انتشار كاميرات الديجيتال والجوال. الخطر يهدد المهن جميعها، والمنافسة مشتعلة، ليس فقط بين الصحف الورقية والإلكترونية، بل بين المقال الذي تكتبه اليوم، وعليك أن تكتب ما هو مختلف عنه في اليوم التالي.

فرق شاسع بين صفحة ثقافية كانت تصدر في الستينات تخصص مقالاتها لكبار الأدباء وإبداعاتهم التي ستتحول إلى كتب ذلك العصر بعد جمعها، وصفحة ثقافية في مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث كل فرد بمقدوره أن يكون أديبا وصحافيا له «مدونة» وصفحة على «الفيس بوك» ينشر عليها كتاباته، وتعليقات قرائه، فيما الرسامون يعرضون لوحاتهم على مواقعهم على مدار السنة، دون منة دور العرض. الفرق مرعب بين زمن لا مكان فيه للكلمة غير الجريدة، وزمن آخر كل أدواته الإلكترونية مكان للكتابة التي لا تتوقف على مدار الساعة.

الصفحات الثقافية بصيغتها الحالية، تعاني النزع الأخير، وعليها ألا تكون لينة فتُعصر أو يابسة فتُكسر. قيل للشريف الرضي: «صف لنا العاقل، فقال: هو الذي يضع الشيء في موضعه. فقيل: صف لنا الجاهل. فقال: لقد فعلت.

لذلك، ربما كانت الصفحات الثقافة بحاجة إلى دورة تأهيلية عند جدتنا شهرزاد التي استطاعت أن تنزع النوم من عيني شهريار لما في كلامها العميق من سهولة ممزوجة بمشوقات ومغريات.