الوقت الأنسب للتفاوض مع طالبان

TT

تتزايد التكهنات داخل وخارج أفغانستان على اقتراب عقد حكومة كابل محادثات مصالحة مع طالبان. لكن رغم تردد زعماء طالبان، فقد بدأوا في البحث عن بدائل للقتال، فهم يدركون بلا شك أن تحقيق انتصار عسكري أمر صعب المنال مثلهم في ذلك مثل الرئيس حميد كرزاي وقوات الناتو.

ليس هذا بالأمر المستغرب، فقد بدأ الوقت لا الموارد ولا الرغبة في القتال بالنسبة لطالبان، في النفاد. فحتى وقت قريب، كانت طالبان تؤكد على أنها ستواصل القتال حتى تخرج كل القوى الأجنبية من أفغانستان، وكان من شروطهم الأخرى، إطلاق سراح بعض سجناء طالبان وحذف مجلس الأمن الدولي أسماء أعضاء جماعة طالبان من قائمة عقوبات «القاعدة - طالبان».

لكن مع تأكيد الولايات المتحدة بدء انسحاب جزئي من أفغانستان مطلع شهر يوليو (تموز) المقبل، والتوقعات باستمرار الحملة الجوية القوية الحالية والهجمات الأخرى التي تستهدف قادة طالبان، لم يعد خيار الانتظار حتى جلاء القوات الأجنبية بالكامل من أفغانستان خيارا مغريا بالنسبة لهم.

وكانت شبكات القيادة والسيطرة التي نفذتها منذ بداية تمردها عام 2006 قد شهدت نجاحا نسبيا، لكن الحملة التي قادتها القوات الخاصة الأميركية بمرافقة القوات الأفغانية والقوات الأخرى بمساعدة معلومات استخبارية متطورة ومساندة الطائرات من دون طيار التي استهدفت قادة «القاعدة» والقيادات الوسطى فيها، أوقعت خسائر هائلة في صفوفها. فلم تفقد طالبان بعض أبرز رموزها فحسب، بل أجبرت من نجا منهم على التواري عن الأنظار، ونادرا ما يشاهدون داخل أفغانستان.

غياب الاتصال المباشر بين قادة «القاعدة» ومقاتليهم واستنزاف العدو لسلطاتهم، جعل قادة طالبان يحدون من مكالماتهم الهاتفية خشية التعرف على مواقعهم واضطروا إلى استخدام أساليب أقل فعالية وثقة لمناقشة الاستراتيجيات ونقل الأوامر إلى القادة الميدانيين.

الاتصالات المباشرة، اللازمة لتدعيم روابط الحركة، ضعفت، نتيجة مقتل كثير من القادة ذوي المراتب الوسطى، واستبدالهم بشباب أحدث سنا وأقل شهرة من أسلافهم، ليصبح القادة الإقليميون والمحليون أكثر استقلالية وأقل رغبة في تنفيذ الأوامر والسعي وراء مصالحهم الخاصة، عبر جمع الأموال والاحتفاظ بها لأنفسهم بدلا من نقلها إلى قادتهم لإعادة توزيعها. وسيرا على درب العادات الأفغانية يقوم القادة المحليون ببناء إمارات مستقلة يترددون في التخلي عنها.

هذا الانقسام الذي تعانيه طالبان، التي توحدت تحت راية قتال عدو مشترك، أكثر منها آيديولوجيا مشتركة، ربما يبدو أخبارا جيدة بالنسبة لواشنطن وكابل، لكنها تخلق أيضا بعض الصعوبات، فموقف قادة طالبان الضعيف سيزيد من صعوبة تنفيذهم لأي اتفاق ـ ليس لمجرد وقف القتال وتطبيق الدستور الوطني، بل للانفصال التام عن «القاعدة».

يقوم على حراسة كثير من قادة طالبان الجدد أفراد من «القاعدة» ومتطرفون آخرون لا يؤيدون عقد اتفاق مع الرئيس كرزاي، وقادتها في الجنوب والشرق لديهم روابط قوية بطالبان باكستان وأفرادها المتشددين.

هذا الضعف الذي تعاني منه قيادة طالبان يفرض بطبيعة الحال مزيدا من الضغوط الزمنية على الحكومة الباكستانية التي ستكون ضمن الأطراف المشاركة في أي عملية مصالحة. وإلى جانب التعامل مع النتائج الكارثية للفيضانات التي شهدتها البلاد، يواجه الجيش الباكستاني حرب استنزاف مع المقاتلين المسلحين تسليحا جيدا في المناطق القبلية على الحدود مع أفغانستان.

من المؤكد أن التوصل إلى تسوية في أفغانستان سيساعد الجيش على إخضاع طالبان باكستان، خاصة إذا أفرزت التسوية سيطرة أكثر فعالية للجانب الأفغاني من الحدود. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من وجود كثير من قادة طالبان أفغانستان ممن لهم صلات قوية بالجيش الباكستاني وتجمعهم مصالح مشتركة، فإن قيادة طالبان الشابة الصاعدة لا يتوقع أن تتعاون مع إسلام آباد.

ومن ثم ربما يدعم القادة الباكستانيون المصالحة، مفضلين الاستقرار في أفغانستان أكثر من تشكيل حكومة في باكستان موالية لكابل.

أما القوى الإقليمية الأخرى، كإيران وروسيا، فلن ترغب في عودة طالبان للسلطة بشكل كامل، لكنها رغم ذلك سترحب بالتوصل إلى تسوية. فتشكل تجارة المخدرات المنتجة في أفغانستان سوقا داخلية ضخمة في إيران. وتمثل المخدرات إلى جانب مشكلات الصحة والجريمة القائمة، مشكلة متنامية في روسيا، يمكن القضاء عليها عبر تحقيق مزيد من الاستقرار في أفغانستان.

ربما تسعد إيران بالمعاناة الأميركية الحالية في أفغانستان، لكن مصالحها الطويلة الأمد ستدفعها إلى المساعدة في توازن القوى في كابل بما يساعد على توفير أمن الحدود وحماية الشيعة الهازار في أفغانستان. وربما ترى روسيا أيضا ميزة في اتفاقية تقاسم السلطة التي يمكن أن تحد من فرص الجماعات المتطرفة في استخدام أفغانستان كقاعدة لتقويض الحكومات الهشة في دول آسيا الوسطى المجاورة.

إذن، ما الذي يمكن أن تفرضه المفاوضات مع طالبان؟ بالنسبة لمطلبهم الأول ـ الانسحاب الفوري للقوات الأجنبية من أفغانستان ـ نتوقع من طالبان بعض المرونة. إذ يجب أن يدرك قادة طالبان أن الانسحاب السريع للقوات الغربية سيؤدي إلى مزيد من القتال لا العكس؛ لأن الخصومات العشائرية والإثنية التي حالت دون الاستقرار على مدار الـ30 عاما الأخيرة ستعاود الظهور مرة أخرى. ما تحتاجه طالبان في الوقت الراهن هو وقف عملياتهم. ولتلبية مطلبهم بحذف أسمائهم من قائمة العقوبات يجب عليهم القبول بأن ذلك سيكون نتيجة للسلام لا كحافز لتحقيقه.

المسألة الرئيسية هنا هي «القاعدة»، يجب أن توافق طالبان وأن يظهروا أنهم قادرون على تنفيذ الاتفاق وأن «القاعدة» لن تتمكن من متابعة أجندتها الإرهابية من أي جزء من أفغانستان خاضع لسيطرتها. من ناحية نظرية يجب أن يكون ذلك ممكنا. وقد عبرت قيادة طالبان مرارا أنها إن عادت إلى السلطة فلن تتدخل في شؤون الدول الأخرى، أو السماح لأي فرد بالقيام بأي شيء انطلاقا من أراضيها.

ربما يجب على الحكومة الأفغانية تقديم بعض التنازلات من ناحيتها أيضا، فإصرارها على ضرورة تخلي طالبان عن السلاح سيعني أنها تريدهم أن يسلموا أسلحتهم. وإصرار حكومة كابل على دعم طالبان للدستور الأفغاني يشير إلى أن أجزاء منه ربما تكون بحاجة إلى التغيير. على الرغم من كل الرجعية المحافظة التي تتسم بها طالبان، فإنهم أفغان براغماتيون. فقد نشأوا في ثقافة التفاوض حيث لا يحصل شخص واحد على كل شيء، ولا يخرج أحد من دون شيء. وعلى عكس «القاعدة»، فإنها حركة قومية ذات أهداف وطنية، وعلى الرغم من استعدادهم للقتال حتى آخر رجل منهم، فإنهم يفضلون العودة إلى الحكم. وإذا ما بدأت المفاوضات، ناهيك عن نجاحها، ستحتاج طالبان لأن تبدي أنها مستعدة أيضا للحكم.

* رئيس فريق مراقبة أنشطة تنظيم القاعدة وطالبان

في الأمم المتحدة.

* خدمة «نيويورك تايمز».