مشروع الإيمان ومشروع المفاوضات

TT

عندما كان السادة محمود أحمدي نجاد وحسن نصر الله ونوري المالكي، يعلنون ولاءهم للولي الفقيه؛ فإنهم كانوا يقدمون مشروع إيمانهم أو معالم ذلك المشروع الذي عبر عنه الرئيس نجاد بأنه يضم المقاومين بزعامة إيران، ويشمل لبنان والعراق، فإذا استطرد، ذكر سورية وأحيانا تركيا، وإذا اختصر وركز، ما عاد هناك غير إيران والعراق ولبنان وأحيانا سورية. والمشروع هذا هو مشروع «تصدير الثورة» الذي قامت عليه ولاية الفقيه منذ الثورة، وهو يشمل بالدرجة الأولى الطوائف الشيعية في العالمين العربي والإسلامي، وفي المهاجر. وهذه ينبغي أن تدين هي ونخبتها الدينية بالولاء للمشروعين الديني والسياسي للمرشد الأعلى، وأن ترسل الخمس إن أمكن أو تسلمه لوكيل الولي الفقيه في البلد المعني. وفي البداية ما كان المقصود بهذا الولاء غير إثبات الزعامة، وإثبات القدرة على التأثير في هذا النظام أو ذاك إن كان غير بشوش تجاه الثورة والدولة في إيران. وما خلا الأمر من ميول تبشيرية لدى بعض مراجع الشيعة بإيران أو السيد فضل بلبنان، الذين نشروا مكاتبهم في أرجاء العالم الإسلامي بآسيا وأفريقيا.

بيد أن جبهة منسية - إذا صح التعبير - ظهرت في عام 2000، عندما انسحبت إسرائيل من أكثر جنوب لبنان، وقيل وقتها إنها انسحبت تحت وطأة ضربات المقاومة. وكان الوقت وقت الرئيس محمد خاتمي، وهو يريد الانفتاح على العرب والعالم وإقفال الجبهات. بيد أن المحافظين القدامى والجدد من حول خامنئي رأوا إمكانيات متجددة للاستعمال والاستغلال في الحركة الشيعية المسلحة على حفافي فلسطين والبحر المتوسط. ثم كانت أحداث عام 2001، وغزت الولايات المتحدة أفغانستان، وأعلمت إيران عام 2002 - بعد أن شهدت منها تعاونا في الغزو الأفغاني - أنها تعتزم غزو العراق، وأنها تريد تعاونها أو حيادها. وآثرت إيران الحياد، لكنها سمحت للأحزاب والتنظيمات العراقية اللاجئة عندها بالعودة إلى العراق لاستقبال الأميركيين ومساعدتهم، وحكم العراق لاحقا. ولأن الإيرانيين شعروا - على الرغم من الفرصة المتاحة بالخلاص من طالبان وصدام - بالتوجس لإحاطة جيوش الولايات المتحدة بهم من كل ناحية؛ فإنها استنفرت قواها جميعا، ومن ضمن ذلك، التنظيمات الشيعية وحركات الإسلام الثوري السنية. ورأت أن هذا الاستنفار مفيد في وجه التحديات، واستثمار الفرص. بيد أن الأهم فيه هو التمكين لاحقا من الحصول على مكاسب في سياق خروج الأميركيين القصيري النفس.

وها هم الأميركيون يخرجون من العراق عام 2011، ومن أفغانستان عام 2012. إنما المهم أيضا أن الأميركيين لا يخرجون في سياق هزيمة، في اعتبارهم هم على الأقل! بل ومنذ لجنة بيكر - هاملتون التي شكلها الرئيس بوش عام 2007، هناك نصيحة تحولت إلى سياسات، وهي تدعو للتفاوض مع إيران وسورية واستيعابهما. وبالفعل؛ فإنه ما حدثت حروب بين الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة منذ أوائل أيام أوباما. والأمر الآخر أنه في الوقت الذي أفلح فيه دأب جورج ميتشل في إعادة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات، تنوء إيران تحت عبء أربعة قرارات دولية، ضيقت عليها أنفاسها، ووضعتها في مصاف كوريا الشمالية، فضلا عن اتهامها من جانب الجميع بدعم الإرهاب!

ماذا فعلت إيران، وماذا تفعل الآن؟ لا تزال تعلن منذ عام 2003 وبشكل شبه يومي، عن ظهور أسلحة جديدة لديها، أكثرها في المجال الصاروخي. وفي الوقت نفسه جددت تحالفاتها وذكرت بالأوراق التي تملكها، وبلغ خطابها من الصخب - بعد زيارة الرئيس الأسد إلى طهران وإعلانه عن قيام جبهة الصمود والتصدي - أن خشي كثيرون أن تقع الحرب فورا. فقد جاء نجاد إلى لبنان وهدد وتوعد أميركا وإسرائيل. ثم مضى إلى طهران فقال إن جنوب لبنان سيغير وجه المنطقة، وإن المنطقة والعالم نزل بهما الارتباك نتيجة زيارته لبيروت ولجنوب لبنان! فهل تريد إيران الحرب فعلا لها ولحلفائها، أم أن في ذلك قدرا من التهويل لبلوغ أهداف أخرى؟!

في الخطاب الذي ألقاه نجاد وذكر فيه تغيير وجه المنطقة من طريق الجنوب؛ ذكر أيضا عرض وزيرة خارجية دول الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون بالعودة للتفاوض على النووي مع الـ5+1 منتصف شهر نوفمبر (تشرين الأول) المقبل. وقد اشترط نجاد للتفاوض شروطا عادية مثل الندية والكرامة واحترام مصالح الآخرين لكي يحترموا مصالحك! وهذه جميعا أمور لا خلاف عليها؛ ولذا فالمرجح أن ينعقد التفاوض أخيرا بعد أن تعطل مرارا من قبل بسبب التجاذبات مع الولايات المتحدة. وبذلك فقد تكون التحشدات الإيرانية، علتها إبراز الأوراق التي يملكونها، وإمكان المقايضة عليها في حدودها. بمعنى أن المطلوب ليس الذهاب إلى المعركة الآن؛ بل عرض الأسلحة التي تملكها والميزات التي خبرتها، رجاء أن يعتبر الجميع فلا يتجاوزوا حدودهم مع إيران. ويرجح هذا التقدير أن الولايات المتحدة ما عادت راضية عن المالكي، أو هكذا تعلن بعد طلبه العون من طهران. وجاء مساعد وزير الخارجية فيلتمان إلى بيروت، ليؤكد على المحكمة الدولية والاستقرار معا. فإيران تبرز أوراقها، والولايات المتحدة تلوح أيضا بما في يدها. ثم إن التفاوض إن جرى، لكن يكون فشلا كاملا أو نجاحا كاملا. فقد قامت علاقات مقبولة في العراق وأفغانستان، وربما في أمكنة أخرى. وإذا حدث تقدم في المحادثات بين الغرب وإيران، فليس معنى ذلك أن يتغير الخطاب الإيراني شديد الحرارة في حملته على إسرائيل. وليس من الضروري أن يكون الأميركيون منزعجين لحملة إيران على إسرائيل؛ ذلك لأن التطرف يولد التطرف. وهم يضغطون على إسرائيل بهذه الطريقة أيضا. والمنطق الأميركي، وهو منطق العرب المعتدلين، أن الاستيطان، والإعراض عن التفاوض على القدس، والحدود؛ كل ذلك يزيد التطرفين العربي والإسلامي، وتستفيد من ذلك إيران حاملة الراية، كما يستفيد الراديكاليون من فشل التفاوض.

على خلفية الحشد الطويل إذن منذ عام 2004 على الأقل، فإنه آن لهذا الحشد أن يحقق أهدافه أو تفشل التعبئة. وليس المقصود مناطحة الولايات المتحدة عسكريا في الخليج مثلا، لأن الأمل معدوم هناك بإمكان تحقيق اختراق. بل القيام بتحركات «تعرضية» بلغة العسكريين، وفي لبنان والعراق بالذات، حيث يملك حزب الله وحزب الدعوة أن يوصلا الموقف إلى حافة الهاوية. وهكذا يعي كل طرف ما عند الطرف الآخر، فيحثه ذلك على التفاوض أو الكف عنه حسبما يرى مصالحه.

وإذا كان هذا هو السيناريو، أي ألا تحصل حرب قبل التفاوض الأميركي - الإيراني، فليس معنى ذلك أن يرتاح العراق أو لبنان أو فلسطين. وذلك لأن المناوشات - وحتى تلك التقارير - أدت لاجتراح آليات لمكافحتها على الأرض، بحيث ينهمك الجميع في تجاذبات منهكة تتطلبها عمليات «بناء السلطة» أو تكوينها بعد انقضاء مرحلة الحرب الباردة، وبروز آيديولوجيات دينية تريد الكل أو لا شيء!

أين يدخل هذا كله في مشروع الإيمان أو مشروع المفاوضات؟ يدخل في المفاوضات ولا شك، وإنما يراد الإيهام بجبروتهم هم من طريق التلبس بلبوس التقوى والورع، وانتظار المهدي بعد اشتداد غياهب الظلم والظلمات على أنصاره (!)