الآن أدركت: كم أنا متخلف

TT

تعجبت من رجل (وطنجي) متحمس، عندما أخذ يتكلم معي من دون أن أطلب منه ذلك، ومع هذا أخذ يخاطبني، وكأنه واقف على منبر يخطب في الجماهير قائلا لي: «إنني لا أطلب من وطني نفقات ولا معاشات، ولا إنعامات، ولا أوسمة، ولا أمجادا، لأنني مدين لوطني بأنه وفر لي على الأقل الهواء الذي أستنشقه، وإنني لا أريد منه غير أمر واحد لا غير».

قال ذلك، ثم زفر زفرة طويلة حتى خلته مات، ولكنه للأسف استرد بعد ذلك أنفاسه بصعوبة بالغة، ثم استطرد قائلا: «إنني أريد منه بكل بساطة أن لا يتلوث ذلك الهواء، الذي أعيش به ومن أجله.. آه يا مشعل لو تعلم ما هو ثمن ذلك الهواء، وما هو قدره!».

لم أرد عليه، ولكنني نفخت دخان السيجارة التي أشعلتها لتوي في وجهه.

* * *

رفع ضغطي أحد المغنين عندما أنهى وصلته الأولى في الغناء، وجاء وجلس بجانبي ليستريح قليلا استعدادا لتقديم وصلته الثانية، وقال لي بثقة زائدة: «إن فمي ما هو إلا ملعب للكلمات».

واحترت بماذا أرد عليه! خصوصا أنني لا أطرب إطلاقا لذلك المغني الذي لا يحسن حتى إتقان مخارج الألفاظ، فما كان مني عندها إلا أن أصدمه قائلا له: «بما أن فمك هو ملعب للكلمات، فإن أذني ما هي إلا مشنقة ومقصلة وحد سيف للكلمات».

وما إن سمع ردي حتى قام من مكانه غاضبا، واتجه إلى مقعده خلف (الميكروفون) متناولا عوده بعصبية، وأخذ يغني بدلا من الأغنية الواحدة خمس أغنيات، وكان طوال غنائه الممل (يفرصع) بعينه في وجهي، وكأنه يقول لي: «خذ في عينك وفي أذنك».

* * *

جلست مع موظف كبير من شركة تأمين أجنبية كبيرة، وتطرقنا في ما تطرقنا، إلى دهاليز التأمينات، مبديا له ذهولي من أحد لاعبي كرة القدم عندما أمن على قدمه بعشرات الملايين من الدولارات، وأنا المسكين لا أستطيع أن أؤمن حتى على أصبعي الصغير أو الكبير، فضحك من ذهولي أو تعجبي قائلا: «لا أدري ماذا سوف تكون ردة فعلك إذا ذكرت لك أن إحدى الراقصات قد أمنت لدى شركتنا على الجزء الأوسط من جسمها بمبلغ خرافي».

لا أكذب عليكم أنني ما إن سمعت كلامه هذا حتى اعتدلت في جلستي بعد أن كنت مسترخيا، أفكر فقط في هذا الجزء الأوسط من جسمها، وماذا يكون، وكيف يمكن تحديده!

فسألته بكل براءة: «بربك كيف استطعت أن تحل هذه المعضلة العويصة؟!».

فقال: «إنني بعد أن قدحت زناد فكري، كتبت في بوليصة التأمين: (إن ذلك يشمل جسد الراقصة كله ما عدا الرأس، والذراعين، والساقين والصدر)».

فقلت له: «يا لك من عبقري، الآن فقط أدركت كم أنا متخلف».