في الكويت.. مخاطر الإعلام غير المحسوبة

TT

في الديمقراطيات الحديثة يتحدثون عن إحلال صناديق الانتخاب بدلا عن خراطيش البنادق لحل المشكلات العالقة في المجتمع، في الكويت أصبح هناك صناديق أخرى هي صناديق الفضائيات التي تؤثر سلبيا في النسيج الاجتماعي، أكثر من خراطيش البنادق، متجاهلة صناديق الانتخاب، بعضها نيران معادية وبعضها نيران صديقة. السياسة اخترعت لتكون بديلا عن العنف، إلا أن الصناديق الفضائية والورقية وما تحويه من التلاسن الإعلامي، حولت السياسة إلى مشروعات عنفية متجددة، يبدأ العنف باللفظ الذي قد يتحول إلى عنف باليد بعد حين. تبرد الأجواء الطبيعية بقدوم الخريف في الكويت، وعلى عكسها تسخن الأجواء السياسية.

ففي الأسبوع الماضي فوجئ البعض - ولا أقول كثيرون - بأن قضايا خلافية بثت في الإعلام تحولت إلى تصاعد أدى في النهاية إلى أعمال عنف - لو لم يتدخل العقلاء في اللحظة الأخيرة - لحدث ما لا يحمد عقباه.

هذا الحادث هو الأخير وليس الأوحد فقد سبقته أعمال عنف جراء العنف اللفظي، ولا أعتقد أنه النهائي إن استمرت الأمور على ما هي عليه. الانتشار الإعلامي الكثيف في الفضاء العربي بشكل عام جاء على حساب المعايير القيمية والمهنية والمعرفية والأخلاقية والاجتماعية، وتعددت وسائل الاتصال من خلال المواقع الإلكترونية أو الرسائل الهاتفية النصية، حتى لم يعد المواطن الكويتي يعرف أين الحقيقة من الإشاعة، وهي ظاهرة تكاد تتماثل في بلدان عربية عديدة، فوجئت بشخص يسألني وأنا أسير في معرض الكتاب في الكويت الأسبوع الماضي عن انتهاء النفط في الكويت بعد سبع سنين، نفيت الخبر وسألته من قال لك ذلك؟ رد بأن رسالة على جواله أوصلت الخبر إليه!!

في الستينات من القرن الماضي يحكي لنا الصديق المرحوم محمد مساعد الصالح عن قصة إعلامية لها دلالة، وهي باختصار أنه كتب مقالا ناريا في أوائل الستينات من القرن الماضي وصف فيه عبد الكريم قاسم بالمجنون، وكان قاسم يهدد باحتلال الكويت، فما كان من المرحوم الشيخ عبد الله السالم إلا أن استدعى رؤساء تحرير الصحف ووجه كلامه لمحمد مساعد الصالح قائلا يجب على الصحافة ألا تهبط إلى هذا الأسلوب، فقال الراحل محمد مساعد الصالح إن صحافة العراق تنعت الأمير الشيخ عبد الله السالم بنعوت أشد، فرد الأمير: يجب علينا أن نترفع في الرد عليهم، يقول المرحوم الصالح إن ذلك هو الدرس الأول الذي تعلمته.

هذا الموقف من أخلاقيات الإعلام ضعُف أو قد يتلاشى في الكويت مع الانفجار الإعلامي وتوسع المجتمع، وأصبح التلاسن الخشن وحتى السباب بين الإخوة الأعداء، كما في الأساطير الإغريقية، يكاد يصبح حتمية اجتماعية في مواجهة بين الهويات الصغرى في المجتمع الكويتي الذي هو صغير أصلا، والهوية الأكبر وهي مشروع الدولة الحديثة القانونية.

الحيرة في التفاعل مع الإعلام في الكويت جعلت من سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد يشير إليه بقلق في خطاباته السابقة، مؤكدا أن هناك فرقا بين الحرية الإعلامية وفوضى الاتهامات أو توزيع الإشاعات واتهام الناس بالباطل، ولا يخلو خطاب عام له من ذلك التحذير، إلا أن كل النداءات ذهبت أدراج الرياح. بعض المدارس الإعلامية ترى أن التصعيد الإعلامي يؤدي إلى الشهرة والانتشار، وبعضها الآخر يرى فيه تصفية خلافات أساسها مصالح سياسية ظاهرة أو باطنة، إلا أن التجاذبات وصلت إلى حالة من التشنج، وإثارة النعرات، تهدد التوازن الاجتماعي. قد يكون هذا المخاض الصعب هو الصراع بين الهوية الشاملة التي ترغب الدولة أن توجد مذوبة كل الهويات الفرعية في بوتقتها، وبين من يريد أن يتمسك بالهويات الصغرى، الطائفية والعائلية والقبلية، وقد تكون تلك قاعدة العمل الإعلامي مع استثناءات قليلة، وأقصد الشهرة والتشهير. لقد زاد التراشق الإعلامي والتجاذب السياسي في الكويت حتى وصل إلى درجة تفاقمت معها التوترات الاجتماعية، مما يهدد النسيج الاجتماعي بالخلل.

الحرية المسؤولة قيمة عليا وهي عبء كبير وضخم على من يعرفها على حقيقتها، وإلا فإنها تتحول بين أيدي من لا يُقدر أهميتها، إلى فوضى قد تأكل الأخضر واليابس في البلاد. لقد تخلت قوى الرفع في المجتمع عن دورها، فبعض النخب استمرأت التجاذبات الإعلامية إلى درجة أنها أصبحت جزءا مكونا من النشاط السياسي اليومي يطالعه المواطن كل صباح، إلا أن تلك الممارسة، تخلف جروحا غير قابلة للاندمال.

أمير الكويت صاحب التجربة الثرية الشيخ صباح الأحمد، له مقولة ثاقبة «إن الإعلام يجرح ويداوي»، كان ذلك قبل انتشار الفضائيات وقبل الانتشار الإعلامي الضخم المشاهد اليوم. فإن كان في يد لا تتحمل أو تقدر مسؤوليته يجرح، وإن كان في يد مسؤولة واعية يداوي جروح المجتمع ويكشف العثرات. ما تعانيه الكويت - من تجربة طويلة في الإعلام - ليس نقصا في الحريات، ولكن نقصا فاضحا في الأداء المهني.

ما حدث ويحدث في الكويت هو في تصاعد، حيث إن العودة إلى حالة التوازن تتطلب حالة من حالات الإجماع أو التوافق على دور الإعلام وحدوده في المجتمع. وقد تمت بالفعل محاولات متعثرة للوصول إلى شيء من ميثاق الشرف الإعلامي، يعمل لترشيد العمل الإعلامي ومتابعة الشوارد أول ما تظهر ومعالجتها بأكثر من طريقة. وهو أمر موجود ومطبق في أكثر دول العالم وأعرق الديمقراطيات المعروفة. إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، بسبب تخلي النخب عن دورها ووضع العقبات أمام مثل هذا التوجه الحضاري.

تدخل الكويت فترة سياسية حرجة، فمن جهة هناك خطة تنموية طموحة، في رأيي ليس لها مماثل في عالمنا العربي من حيث الطموح والاتساع، ومن جهة أخرى هناك استخفاف بمتطلبات التقنين والترشيد مما يخلق نزاعا غير محدد بخطوط حمراء توازن بين حرية الرأي وظلم الناس.