الموقف العربي!

TT

من أكثر العبارات التي تلازم مسامعنا ونشرات أخبارنا وصحفنا ووسائل إعلامنا وبيانات قممنا ولقاءات دولنا، عبارة «الموقف العربي»، لا يخلو بيان قمة أو لقاء تشاوري أو زيارات الزعماء والقادة العرب من هذه العبارة.

وكلمة الموقف مشتقة من وقف، وهي كلمة حديثة نسبيا، وكانت في الماضي تستخدم للتعبير عن الرأي الفكري لعالم أو مذهب أو مدرسة فكرية، لكنها اليوم تستخدم لمكان الوقوف أمام محطة الباص، أو مواقف السيارات، أو الوقوف أمام طوابير الجمعيات في دول الشح الغذائي، أو الوقوف في طوابير العاطلين عن العمل، وهكذا.

وتطور معنى كلمة الموقف لتعني المشهد، فيقال إنه جرى تقييم الموقف، بمعنى تقييم الوضع، ومن غرابة هذا التطور أن يقال إنه بعد تقييم الموقف تم اتخاذ موقف!

والوقف يعني تخصيص عطاء لعمل الخير، ومنها اشتقت وزارات الأوقاف وصناديق الوقف، ونقرأ عادة عبارة «وقف المرحوم فلان» على سبيل ماء أو على إعلان تجاري.

نعود لعبارة «الموقف العربي»، التي أعتقد أن معناها مستوحى من الوقوف، وقد تكون ترجمة لكلمة «STANCE» الإنجليزية التي لها مدلول الصمود والصلابة والقوة. وعلى هذا الأساس شاع هذا المصطلح وانتشر كالنار في الهشيم في أدبياتنا السياسية.

يفرض مصطلح «الموقف العربي» نفسه لغويا، ولعله أكثر المصطلحات العربية «الفارغة»، وإن كان لكل من اسمه نصيب، فإن هذا المصطلح أكثر المصطلحات خديعة، بمعنى أنه اسم على غير مسمى. في استعراض للموقف العربي من القضايا الساخنة، لا نجد موقفا عربيا، بل نجد مواقف عربية متباعدة. خذ أكثرها سخونة ومركزية - قضية فلسطين - وانظر إلى المواقف العربية، لا بل حدق في موقف أهل القضية أنفسهم من قضيتهم: فريق مع السلام المفقود، وفريق مع الرفض «المفروض»، أي: فريق يتبنى السلام بلا «هوادة»، وآخر يتبنى المقاومة «بلا فائدة»!

والموقف العربي من القضية اللبنانية ينقسم إلى عدة مواقف بعدد الأحزاب في لبنان.

وموقفنا العربي من العراق واحد: عراق عربي موحد، ونضيف: يقرر أهله مصيره «دون تدخلات خارجية»، وهذه العبارة نضيفها تحاشيا لذكر كلمة ديمقراطي، لأن موقفنا العربي الرسمي معاد للديمقراطية وضد إشاعتها، سواء في العراق أو في غيره. ويبدو للوهلة الأولى أن الموقف من العراق موقف متماسك، لكن واقع الحال يقول إن إعلان المواقف لا يعني بالضرورة تبنيها، وفي الحالة العربية، دائما، إعلان الموقف شيء، وترجمته شيء آخر!

ورغم أني أدعي أني متابع جيد للمواقف العربية، فإنني أعترف بجهلي بالموقف العربي من المسألة السودانية، ولا أدري إن كنا مع الاستفتاء حول انفصال الجنوب، أو ضده، وإن كنا مع الاستفتاء، فهل سنقبل بالنتيجة، ومع عجزنا بامتياز عن إعلان موقف من قضية دارفور، فإن موقفنا كان «رائعا» بوقوفنا صفا واحدا في وجه المحكمة الدولية وتضامننا مع الرئيس السوداني عمر البشير لأسباب يدركها القارئ الفطن، ويعيها الطفل الفطيم.

أما قضية الصحراء المغربية، فإن الأمانة والموضوعية تقتضيان أن نعترف بأننا عجزنا حتى عن إعلان موقف تجاهها، وعجزنا عن أن نشير بكل شجاعة ومسؤولية بأصبع الإدانة المباشرة إلى جهات تقف وراء استمرارها العبثي النازف، فجاملنا هذا، وتمتمنا بعبارات بليدة لذاك: حق تقرير المصير - حلها بالطرق السلمية - الأمم المتحدة.. إلخ.

وموقفنا من الصومال تلاشى حتى في بيانات مواقفنا المعلنة في قممنا.

«يا عيالي.. ترى السياسة خساسة»!.. هذا ما كان يقوله أحد المسنين منتقدا حماسنا السياسي حين كنا شبابا ندرس في الجامعة. تذكرت مقولته وأنا أحاول فهم الموقف العربي فاستنتجت: «ترى الموقف العربي لا يعني الوقوف صفا واحدا، يعني القعود صفا واحدا!».