الإعلام المصري والعجز عن الخروج من بستان الاشتراكية

TT

الوسط الإعلامي في مصر هذه الأيام منشغل بقضية إقالة إبراهيم عيسى كرئيس تحرير لجريدة «الدستور» بعد أن اشتراها ملاك جدد يعرف الرأي العام منهم اسمين فقط، هما رضا إدوارد من رجال التعليم وصاحب مدارس خاصة، والدكتور سيد البدوي رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس إدارة قنوات «الحياة» الفضائية الذي باع نصيبه في الجريدة للسيد إدوارد بعد تفجر المشكلة بأيام، والذي وصف حاله في برنامج تلفزيوني، كشخص كان يمشي في أحد الشوارع فسقطت عليه بلكونة. وهي الجملة التي توقفت عندها طويلا بعد أن عجزت عن تصور إمكانية أن يمشي شخص ثروته، كما أعلن هو، أكثر من 600 مليون جنيه مصري (نعم 6 وأمامها 8 أصفار) تحت بيت قديم بلكوناته مرشحة للانهيار. وطبقا للقانون، هناك ثمانية أسماء أخرى من رجال الأعمال اشتركوا في شراء الجريدة، غير أن الرأي العام لا يعرف أحدا منهم حتى الآن، في الغالب هم يخشون من سقوط البلكونات عليهم في شارع الصحافة.

قام محررو الجريدة بحركة عصيان، فأنذرهم الأستاذ إدوارد بالعودة لممارسة عملهم، بعد أن احتل الصورة بمفرده كممثل لمالكي الجريدة ورئيس لمجلس إدارتها، وحتى الآن تصدر الجريدة بالفعل، بينما يقوم كل الأطراف برحلات مكوكية بين المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحافيين بحثا عن حلول ترضي الأطراف المتنازعة، غير أن البعض يرى أن الحلول السلمية للنزاع لم تعد مطروحة، بعد أن تجاوزت الأطراف كل الخطوط الحمراء في توجيه الاتهامات. والثابت والواضح أن الملاك الجدد يرفضون إبراهيمين (عيسى ومنصور) ويوافقون على أية شروط أخرى للصحافيين.

إبراهيم عيسى لم يكن فقط رئيسا لتحرير «الدستور» بل كان العلامة التجارية التي تشير إليها وتدل على وجودها، تماما كما نقول كوكاكولا وكنتاكي فرايد تشيكن، وأبسط قواعد البزنس تقضي بالاحتفاظ بالاسم التجاري عند شراء أي شيء. أن تشتري «الدستور» وتبيع إبراهيم عيسى يشبه عملية أن تشتري شركة كوكاكولا وتحولها إلى شعبولا كولا أو روحية فرايد تشيكن، حتى لو حافظت على جودة البضاعة المقدمة على ما كانت عليه. المدهش أن الإدارة الجديدة ربما لتدفع عن نفسها تهمة تغيير العلامة التجارية السوقية، كانت حريصة على استخدام نفس البضاعة القديمة من العناوين المثيرة الزاعقة التي لا تمت للصحافة بصلة، ومنها: «الجوع ينهش بطون المصريين عندما يفسد الحاكم وتتوحش عصابات القمح والأراضي»، و«الرئيس وانهيار الدولة». لقد اخترعنا شيئا جديدا في مصر اسمه الصحافة المعارضة وعمادها الصحافي المعارض، حتى الآن لم يستقر في وعي أبناء المهنة أن المعارضة في البلاد التي تأخذ بالتعددية الحزبية، وظيفتها العمل على الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات لتنفيذ برنامج عمل معروف للناس مسبقا، وأنه لا يوجد ما يسمى بالصحافي المعارض أو المؤيد، يوجد الصحافي فقط، وإلا تحول إلى زعيم سياسي ثائر أو موظف حكومي بامتياز على الضفة الأخرى. غير أن الوصول إلى هذا الحال كان نتيجة حتمية لحركة الإعلام العام الذي ما زال يتريض في بستان الاشتراكية، رافضا الاعتراف بالمتغيرات في المجتمع المصري بل وفي العالم كله. حتى الآن، الإعلام ما زال متمسكا بالدفاع عن ثوابت المجتمع الاشتراكي، لأن التخلي عنها يعني أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، والتهلكة هي أن يكون جزءا من إعلام العالم وأن يعتنق قيم الحرية السياسية والاقتصاد الحر. رجال الأعمال في معظم الأعمال الدرامية هم أوغاد يعملون على امتصاص دماء الشعب، والعداء لأميركا والغرب بوجه عام ما زال على حاله، والرئيس السادات خائن لأنه عقد اتفاقية سلام منفردا مع العدو الإسرائيلي، أو في أفضل الأحوال فرط في السيادة المصرية على سيناء. حتى الآن هذا النوع من الأفكار له الغلبة، وربما القداسة أيضا، في سوق الإعلام. غير أن الإعلام لم يأت بذلك كله من فراغ، بل هو يستمده من الجبهة الحاضنة له وهي البيروقراطية المصرية، هي بالفعل تؤمن بكل ذلك وإن كان اعتناقها لهذه الأفكار لا يمنعها من الاستفادة منها.

عندما انهارت منظومة الاشتراكية في العالم، وكان من الواضح أنه لا بد من التحول إلى الحرية السياسية والاقتصادية في مصر، البيروقراطية - مستندة إلى أجنحة قوية في الحكم - أدارت معركتها بدهاء، وإذا كانت قاعدة الحرية الاقتصادية تقول: دعه يعمل.. دعه يمر.. اختارت قاعدة جديدة تقول: دعه يعمل، دعه يمر.. على جثتي أولا.

هكذا ضاع وقت طويل قبل أن تقوم البيروقراطية بتفعيل قانون قديم هو «اللي ياكل لوحده.. يِزوَر». واستسلم رجال الأعمال وربما كانوا سعداء بهذا الاستسلام الذي يضمن لهم سرعة إنجاز مشاريعهم وحمايتها أيضا، لقد اكتشفوا أنه من الخطأ بل من البلاهة أن يجلسوا على مائدة الرحمن في طول وادي النيل وعرضه ليأكلوا وحدهم فتكون النتيجة - حتما - أن تقف اللقمة في زورهم ويختنقوا حتى الموت، هذا هو أصل المصطلح الشهير المنتشر هذه الأيام عن زواج السلطة برأس المال وما ينتج عنه من فساد.

على جبهة الصحافة، أعطى القانون للأحزاب الحق في إصدار الصحف، وكان أول من انتفع بهذا الحق حزب الأحرار الذي كان يؤجر التراخيص بإصدار الصحف والمجلات لكل من يدفع الثمن، ثم ظهرت قوانين كثيرة لتنظيم ظهور صحف مستقلة، ومنها أن تستصدر ترخيصا من الخارج (أقرب مكان في الخارج، قبرص مثلا) وهو بالفعل ما فعلته جريدة «الدستور» في إصدارها الأول في التسعينات، وكانت تتميز بالفعل بتجارب لغوية تمزج فيها الفصحى بالعامية في العناوين بطريقة تتسم بالمرح، مما شكل عنصر جذب للقراء. وأغلقت ثم عادت لكي تتحول إلى ما يشبه المنشور التحريضي الثوري ضد كل رموز الحكم والنظام. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للتفوق على الصحافة القومية التي اكتفت بشتيمة الأعداء التقليديين للاشتراكية.

في خطبة طويلة لإبراهيم عيسى في نقابة الصحافيين، اتهم رجال الأعمال بأنهم سيفسدون الصحافة والإعلام في مصر، وأنهم سيستخدمونها في القضاء على خصومهم ولتدعيم سياستهم، الواقع أن جريدة «الدستور» أنشأها رجل أعمال كان يعمل ناشرا، أي أنه كان بشكل أو آخر من أبناء المهنة، كان على الأقل يعرف بمن يستعين لعمل جريدة قابلة للحياة والنجاح بعد تجارب فاشلة. أما ملاك الجريدة الجدد، فهم ليسوا من أبناء المهنة وهو ما يثير نفورا طبيعيا عند صحافييها. إنها ليست قضية جريدة ورئيس تحرير مقال، إنها قضية الإعلام العاجز عن مغادرة بستان الاشتراكية.