عبر جبال الدولمايت

TT

كنا في طريقنا للعراق في أيام زمان. اقتضى ذلك اجتياز هضاب التيرول في النمسا. كان الظلام قد خيم على الكون عندما دخلنا في نفق حالك، ما إن خرجنا منه حتى ظهرت أمامنا في السماء ثلاث سبائك ذهبية مذهلة في حجمها وبريقها. هتفت زوجتي: «الدولمايت!». كلا لم تقصد نوعا من الذهب الخالص 24 حبة، أو قلادة ذهبية تقلدتها ملائكة السماء. كانت ثلاث قمم شاهقة من قمم جبال الدولمايت الفريدة من نوعها وتركيبها الصخري. بلغ من شموخها في السماء أن التقطت أشعة شمس الغروب فتألقت بها، بينما غطت ظلمة المساء بقية الكون دونها. ظهرت في السماء وكأنها في معزل عن الكرة الأرضية: «يا الله! هذا منظر لم ولن أشهد مثيلا له». كنت مجرد خريج عائد للوطن، استطاع أن يدبر شراء سيارة ولم يبق بيديه ما يشتري به كاميرا. لم أستطع تسجيل ذلك المنظر الفريد، فآليت على نفسي أن أعود ثانية لهذه البقعة وأشهد هذا المنظر وأسجله بتصوير فوتوغرافي.

مرت سنوات تراودني خلالها هذه الفكرة. لم أصبُ لشواطئ النيل ولا جبال لبنان، وإنما لقمم الدولمايت المذهبة. عدت إليها قبل أعوام، لكن الدليل السياحي أطل علينا والأسف باد عليه: «آسف.. كل الطرق المؤدية إلى الدولمايت مغلقة بسبب الثلج».

خيبة كبيرة.. لكن ما العمل وقد تآمرت الأقدار علي؟ عدت خائبا عازما على تكرار المحاولة. وتكررت الخيبات. فهذه الجبال الشامخة نوع من الجن يأبى أن يسمح للبشر بالتفرج عليه. بيد أن أخبارا مشجعة وردت من الأنباء الجوية بشرتنا بصيف مشمس في المنطقة. آه!.. هذا هو الموسم.. موسم التوجه لجبال الدولمايت. جهزت نفسي، وركزت فكري وفلوسي على شراء آخر ما جادت به التكنولوجيا الحديثة من الكاميرات الرقمية لتسجيل تلك اللحظة العجيبة. ركبت الحافلة ولم أنفك طوال السفرة عن الكلام عن سبائك الذهب السماوية التي تنتظرنا. وتحمس الآخرون وتعطشوا لرؤية ذلك المشهد.

انطلقنا عند الفجر في طريقنا إليها. كان ذهب الصباح يختلف عن ذهب المساء، فلشروق الشمس مزاج يختلف عن مزاج غروبها، حيث ترى نور الشروق ذهبا خالصا وبكرا مشحونا بالأمل، في حين ترى ذهب الغروب معكرا بشيء من النحاس والرماد. أوقف السائق حافلته ونادى فينا: «هذه وقفة سريعة لمن يريد تسجيل صورة». نزلت مع من نزلوا ووقفت. وجهت الكاميرا نحو السماء وكبست على الزر: «تك.. تاك»، لم تنفتح العدسة. كررت المحاولة ثانية: «تك.. تاك»، لم يحصل شيء.. تك.. تاك! تك.. تاك! تك.. تاك! وأبت الكاميرا الرقمية أن تستجيب. نادى السائق: «إلى الحافلة رجاء. الوقت ضيق إلى فينيسيا».

عدت إلى مكاني مدحورا خائبا. لاحظ أحدهم ذلك، فقال: «هذه الكاميرات الحديثة رائعة لكنها معقدة جدا. تتطلب الكثير من الدرس والتدريب. الله يعينك!». جلست ولعنت التكنولوجيا الحديثة، وترحمت على أيام زمان، أيام الكاميرا البوكس. ولعنت تلك الساعة التي أقسمت فيها على العودة وتصوير هذا الجبل.