خبر صغير!

TT

كان خبر انعقاد اجتماعات الحوار الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة في واشنطن في 20 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي مختصرا جدا، ومن أقل الأخبار انتشارا على الوكالات العالمية، حيث اقتصر الخبر على بعض أسماء المشاركين ورئيسي الوفدين من كلا الطرفين، وأن هذا الحوار يعقد كل ستة أشهر، وأن الجلسة السابقة عقدت في تل أبيب في فبراير (شباط) الماضي، وأن موضوعها الأهم كان «التهديد» النووي الإيراني، وبالطبع إعادة تأكيد الولايات المتحدة التزامها بـ«أمن» إسرائيل، الذي يعني، عمليا، تعهدها بتحقيق تفوق إسرائيل العسكري على الدول العربية المجاورة والبعيدة، بالإضافة إلى دول بعيدة غير عربية مثل إيران وتركيا، وانفراد إسرائيل بأسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك السلاح النووي. وقد أشار البيان المقتضب الذي صدر عقب الاجتماع إلى أن «الولايات المتحدة وإسرائيل تلتزمان العمل معا لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، وقد ساعدت المناقشات الحالية على تحديد سبل تعاوننا القوي الحالي في هذا الصدد لمصلحة الجميع في المنطقة»، والسؤال: كيف يمكن أن يكون تعاون الولايات المتحدة الاستراتيجي مع إسرائيل لمصلحة «الجميع»؟ أي كيف يمكن أن يكون تسليح الولايات المتحدة لإسرائيل بالأسلحة النووية، والطائرات الحاملة لها، لمصلحة «الجميع»، بمن فيهم العرب، والأتراك، والإيرانيون؟ كيف يمكن أن يكون تمويل الولايات المتحدة، عبر ضمانات القروض، لبناء المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية «لمصلحة» من تصادر إسرائيل أرضهم، وتهدم منازلهم، وتهجرهم من ديارهم، وترتكب ضدهم جرائم الحرب، والإبادة، والتطهير العرقي، بما يشبه إبادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وأيضا في دول أميركا الجنوبية؟ ومن هم هؤلاء «الجميع» الذين سوف يستفيدون من التعاون الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي، وهو تعاون في مجالات الحرب، والاستيطان، والتخريب المخابراتي الموجه فعلا ضد «الجميع» في الشرق الأوسط، وهو تعاون يهدف إلى الحفاظ على تفوق إسرائيل عسكريا، وبشكل يغطي على جرائمها المتمثلة في تدمير أمن الفلسطينيين، وأرزاقهم، وحياتهم، وحقوقهم، وطريقة عيشهم؟ وفي التعامل مع هذا الخبر يظهر مدى الحنكة الإعلامية للطرفين بتمرير خبر بمثل هذه الخطورة دون أن يلاحظ تقريبا، كي لا يتوقف أحد من ضحاياهما عند المدى الواسع للتكافل والتضامن الاستراتيجيين بين الولايات المتحدة وإسرائيل على العدوان، والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين المتمثلين في الحصار، وحرمان الشعب الفلسطيني من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان! مما يعني أن الولايات المتحدة لم تكن ولن تكون يوما «وسيطا نزيها» من أجل تحقيق السلام العادل والشامل. وهذا في حد ذاته يفسر فشل عملية السلام خلال العشرين عاما الماضية، ذلك لأن حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة، التي هي في واقع الحال رهينة الحوار الاستراتيجي مع القوى الإسرائيلية المحتلة، تتظاهر بأنها تلعب دور «الوسيط»، بينما هي في الواقع تساعد إسرائيل، باعتبارها حليفا استراتيجيا، على تدمير حياة الفلسطينيين، وتهديد الدول المجاورة، وتنشر الحرب وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، بهدف «الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري».

العلاقة الحقيقية والجوهرية بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي أنهما شريكان في السياسة التي ينفذها كل منهما في منطقتنا، وأنه تتم بينهما مناقشة كل الأمور المتعلقة بالحرب، والاستيطان، وتهديد أمن دول المنطقة، وتفتيت الدول العربية وتدميرها، الواحدة منها بعد الأخرى بالحرب، أو الفتنة الداخلية، أو الانفصال على طاولة «الحوار الاستراتيجي» بينهما قبل أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ المشترك، سواء في العراق أو فلسطين أو لبنان أو السودان أو إيران أو أفغانستان أو اليمن، ويتضمن ذلك حتى تسليح بعض الدول بشكل لا «يهدد» إسرائيل. لا بل حتى موظفو الإدارة الأميركية تتم مراقبة أدائهم حسب مواقفهم من إسرائيل وسياساتها تجاه إيران والفلسطينيين ومسائل أخرى، ولا يتم تعيينهم ما لم تكن مواقفهم متطابقة مع المصالح الإسرائيلية. فالذين يفاجأون اليوم بعدم قدرة إدارة أوباما على تحقيق أي تقدم في عملية السلام في الشرق الأوسط يجب أن يعودوا إلى مقال بعنوان «أنباء سارة عن تعيينات أوباما» الذي نشرته الصحيفة اليهودية، 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، Jewish Issues Watchdog:، ومما جاء فيه:

«لقد كانت هناك أسئلة حول التعيينات المحتملة لمواقع مهمة في إدارة أوباما تتعلق بوجهات نظرهم حول إسرائيل وإيران والفلسطينيين وقضايا أخرى. اليوم أؤكد على أسباب تدعو للثقة بأن الفريق المقبل سوف يقوم بأشياء إيجابية في الشرق الأوسط». واليوم، وبعد سنتين من ذلك التاريخ تقريبا نعلم أن تلك «الأشياء الإيجابية» هي «طرح يهودية الدولة، وتسارع غير مسبوق للاستيطان، وتدمير البيوت في القدس الشرقية، وإصدار قانون في الكنيست يرغم الفلسطينيين على دفع أجرة هدم منازلهم، وحرمانهم من العمل في المجال السياحي كي لا يشيروا إلى أي شيء فلسطيني، وإرغامهم على أداء القسم لدولة يهودية، أي التطهير العرقي للوجود الفلسطيني».

وها هي الوثائق التي ينشرها «ويكيليكس» عن الحرب على العراق تؤكد أن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي تشبه في طبيعتها، وحجمها، واستهتارها بحياة العربي، تلك التي ترتكبها إسرائيل يوميا ضد الشعب الفلسطيني. لقد كان المشاهدون يقولون أثناء الحرب على العراق لا نعلم إن كان الموقع بغداد أم القدس، غزة أم النجف، نابلس أم الموصل، جنين أم الفلوجة، لأن الاستهانة بالمقدسات، وحياة البشر، هي نفسها، وأسلوب التدمير والتعذيب في أبو غريب، وغوانتانامو هو نفسه المستخدم بشكل واسع في السجون الإسرائيلية التي تعج بجرائم مخزية، ومخجلة، ومحزنة، التي وإن تسرب بعض منها إلى الإعلام، لا تلقى من يجرؤ على الحديث عنها أو المطالبة بمعاقبة مرتكبيها، نظرا للتعاون الاستراتيجي أيضا بين الإعلامين الأميركي والإسرائيلي، وكل منهما «حر» في ما لا ينشره من جرائم ترتكبها حكومته ضد العرب! والسؤال: من يعاقب القتلة ومجرمي الحرب إذا كانت الأمم المتحدة نفسها، وبكل هيئاتها، ترزح تحت الهيمنة الأميركية؟

وبعد كل ما جرى ويجري في العراق وفلسطين من كوارث، تتسابق اليوم الدبلوماسية الأميركية لدعم النشاط الإسرائيلي لفرض الفتنة على لبنان، وتقسيم السودان. وعلى الرغم من أن الشعب في السودان شعب واحد، وهم متداخلون ومتزاوجون ومتعايشون على مدى قرون في بوتقة واحدة، وثقافة واحدة، وأرض واحدة، ومصير مشترك، فإن أول إعلان عن حتمية الانفصال أطلق من واشنطن على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي وضعت «حتمية الانفصال» في جملة معترضة، وتداعت بعد هذه الجملة الخطوات العملية، من إرسال السفراء إلى السودان، إلى إرسال قوات الأمم المتحدة، إلى الزيارات لبعض مروجي الانفصال إلى واشنطن، وعودتهم أكثر قوة وإصرارا على إكمال المخطط. وفي كل هذا وذاك، من الحرب على العراق، إلى الحرب على الفلسطينيين، وإلى العدوان على لبنان وتزويد إسرائيل بالقنابل العنقودية التي لا تزال تقتل حتى اليوم الناس في الجنوب، فإن الحوار الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي، لا يرى من العرب غير النفط، والمواقع الاستراتيجية. وكما روجوا أن «فلسطين أرض خالية بلا شعب» فإن كل بلداننا تظهر على شاشاتهم أراضي من دون شعوب، وناسا من دون حقوق، يغزونها كما يشاءون، ومتى يشاءون، ومن يشاءون منها، ويقسمون أيا منها كما تملي مصالحهم، ويعيثون فسادا بالعلاقات الإنسانية دمارا وقتلا وتشريدا، ومن ثم يقولون إن «تعاوننا القوي الحالي في هذا الصدد لمصلحة الجميع في المنطقة». أي «جميع» الذين يقصدون؟ وعلى الذين يعتبرون في منطقتنا أن هذا التعاون في مصلحة شعوبهم أن يعيدوا النظر في ذلك، إلا إذا كانت شعوبهم لا تظهر حتى على راداراتهم هم أيضا!.. أو علمتم الآن لماذا كان الخبر صغيرا؟ الكوارث التي تنزل على شعوبنا تتسارع نتيجة مثل هذا الخبر الصغير المقتضب!