الصين بين ثورتين (1 – 2)

TT

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا عند وصولنا «شنغهاي»، الميناء العملاق الرابض على أقاصي الحدود الشرقية للصين، مدينة الحرير، وأرض التاريخ المثقل بالأحداث.

كان التعب قد نال منا، بعد تسع ساعات من طيران متواصل، إلا أنني كنت في حالة، غير مألوفة، من اليقظة النشطة!

لم تكن لي رغبة في النوم، بل كنت أستعجل طلوع النهار!

كنت أتطلع، بفضول لا يهدأ، لأن أرى مشهدا حيا لما اعتدنا، خلال عقود متعاقبة من الزمن، أن نراه على شاشات التلفزيون، حتى كاد يسكن منا الفكر والبصر، وظل رمزا قوي الحضور على النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، للبلد العملاق ذي الألف مليون نسمة.

كنت أتطلع لأن أرى، مع طلوع الفجر، تلك الجموع الآدمية من راكبي وراكبات الدراجات بلباسهم الثوري المتقشف، ذي اللون الرمادي، وهم يندفعون، بتدفق منتظم، نحو المصانع والمؤسسات الإنتاجية الأخرى. جموع تتواصل مع جموع، كأنهم فيض آدمي لا يُعرف من أين يجيء. تشابهت سحناتهم، فلا تكاد تميّز وجها عن وجه آخر، كأن الله، جلت قدرته، قد أراد لهذا الشعب ما لم يرده لشعوب أخرى من الانفراد بخصائص آدمية فريدة.

ولما كنا في «شنغهاي»، ذات الاثنين وعشرين مليون إنسان، فلا بد، إذن، من أن نرى ذلك المشهد الذي نتطلع إليه، ولا نراه إلا في الصين، بلد الألف وثلاثمائة وستين مليون صيني.

ولدهشتي لم أر في الصباح دراجة واحدة عليها صيني واحد!

كان المشهد نقيضا لكل ما استقرت عليه قناعتنا من أن الصين موطن الدراجات.

كانت حشود الناقلات تكاد تسد منافذ الطرق الواسعة: سيارات صغيرة، وحافلات كبيرة، كأننا في مدينة أميركية ضخمة تعاني من اختناق في المواصلات.

أين إذن الدراجات؟.. وأين راكبوها؟

ومن غرفتي، في الفندق المطل على نهر «وان بو» لا أرى إلا عمائر من ناطحات السحاب قامت على شاطئ ذلك النهر العظيم كتلك التي قامت على جانبي نهر «هدسون» في مدينة نيويورك.

يا للتحول في ما كنت أتطلع إليه، وفي ما رأيت!

*****

لم أكن أُعْنى، وأنا سفير لبلادي في باريس، من أواسط السبعينات، حتى أواسط التسعينات من القرن الماضي، وهي فترة التحول المذهل الذي فجرته الثورة الاقتصادية في الصين.. لم أكن أعْنى بالوجه الجديد للبلد العملاق. كانت اهتماماتي، بحكم عملي، مقصورة على متابعتي للشأن الأوروبي والشأن الأميركي، معا. وظلت الصين، في معرفتنا لها، البلد ذا الألف مليون نسمة. إنه لا يمكن، إذن، إلا أن يكون موطن راكبي وراكبات الدراجات، هذا المنظر الإنساني الفريد في حياة الشعوب.

وعلى مدى ثلاثة أسابيع من زيارتنا للمدن الصينية الثلاث، شنغهاي، والعاصمة بكين، وهونغ كونغ، وعلى كثرة ما ترددنا عليه من معالمها التاريخية والحديثة، فقد ظل حوارنا، مع الأدلاء السياحيين الثلاثة، عن الصين الدولة، والشعب، والتاريخ.

*****

ولعل ما كان من أكثر أحداث الصين الكبرى التصاقا بذاكرتنا، ما سمي، في حينه، بـ«الثورة الثقافية».

كانت أعوام الستينات، من القرن الماضي، أكثر الأعوام، في التاريخ العربي المعاصر، ازدحاما بالأحداث السياسية العربية الكبرى، بدءا من انهيار الوحدة السورية المصرية في 28 سبتمبر (أيلول) 1961، والثورة على حكم الإمامة في اليمن في 26 سبتمبر 1962، وإطاحة العقيد هواري بومدين بالسيد أحمد بن بيلا في يونيو (حزيران) 1965، ولما يمض على استقلال الجزائر ثلاثة أعوام، والخلاف السعودي المصري حول اليمن، والحرب الأهلية هناك، والهزيمة في 5 يونيو 1967، وثورة العقيد معمر القذافي واستيلائه على الحكم في ليبيا، في 1 سبتمبر 1969، والقتال الدموي بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية في عمان في سبتمبر 1970، فوفاة الرئيس جمال عبد الناصر المفاجئة، والصراع السياسي بين الرئيس السادات والقوى الناصرية في الجيش والدولة، ثم إزاحة الرئيس حافظ الأسد للحكم القائم في سورية، في «ثورة التصحيح» وإمساكه بالحكم في البلاد.

لم تدع لنا تلك الأحداث من صفاء الذهن ما يمكن معه الانصراف لمتابعة أحداث العالم الأخرى.

كانت متابعتي، وأنا وزير للإعلام في بلدي، لما حملته الأنباء عن الثورة الثقافية عام 1966، متابعة عابرة اكتفت بالعلم أنها ثورة اتسمت بالعنف الشديد. وظلت الرغبة في الاستزادة عن أحداثها حية في النفس ما أمكن ذلك. لذا حرصت على أن أعرف الحقيقة في هذا الحدث التاريخي الكبير من جيل صيني جديد، لا يثقله هاجس الخوف من الملاحقة والعقاب، يروي تاريخ وطنه بموضوعية أتاحها له نفوذ إعلامي عالمي متزايد، قادر على اختراق حصون التستر والإيهام.

سألت أستاذا جامعيا عما إذا كانت «الثورة الثقافية» بركة على الصين، أم لعنة عليها.. فقال، بلهجة الاستنكار: «أين البركة في هذا الهيجان الدموي الأحمق. لقد كانت لعنة على البلاد، بل أقسى اللعنات على تاريخها، وارتدت بالصين خمسين عاما إلى الوراء»!

وبدأ يشرح الفكر الاستبدادي العنيف الذي غلفت به نظرة الزعيم «ماوتسي تونغ» لمخالفيه في الرأي. وروى لي، ما أعلم به لأول مرة، المأساة الإنسانية القومية التي اقترنت بخطة «الوثبة الكبرى للأمام» (The Great Leap Forward)، وأراد «ماوتسي تونغ» بها إنشاء صناعة ثقيلة، على غرار ما حققه الاتحاد السوفياتي في هذا المجال، فأدت إلى إهمال القطاع الزراعي، وقلة في محاصيل الحبوب، فضربت المجاعة مناطق كثيرة في الصين ومات فيها، كما تقول المراجع، ما يزيد على ثلاثين مليون إنسان!

إنه لأمر مفزع يعجز العقل عن استيعابه، أن يموت ثلاثون مليون إنسان جوعا، حتى وإن كانوا من أمة تعدادها ألف مليون نسمة!!

أثارت هذه الفاجعة القومية كوادر الحزب الشيوعي الحاكم، وألقت بالمسؤولية على ماوتسي تونغ، واهتزت هيبته، وارتفعت أصوات تلك الكوادر بوجوب الإصلاح على نحو مغاير لسياسته، بل وفكروا في إقصائه عن الانفراد بالحكم، والاكتفاء بأن يكون رمزا لزعامة الأمة، مع الاعتراف له بكل ما أنجزه في خدمة الثورة.

رأى ماوتسي تونغ في موقف هذه الكوادر نيلا من هيبته، ومنازعة له في زعامة الأمة، وخروجا على ما اعتاد عليه من أن يأمر فيطاع، وإثارة للشكوك حول قدرته على حسن إدارة شؤون البلاد. لم يغفر لهم هذا التطاول. فالرئيس صانع الثورة التحريرية الكبرى، موحد البلاد، وباني مجدها، لا يطيق موقفا من مواقف الجحود، حتى وإن كان من أقرب المقربين إليه، فكان لا بد من أن ينقلب عليهم، قبل أن ينقلبوا عليه. فالأمر، إذن، بالنسبة له، صراع على الحكم، إن لم يكن صراعا على البقاء!

ويواصل الأستاذ الجامعي حديثه موضحا أن ماوتسي تونغ، منذ بداية حركته الثورية، قد اعتمد في تحقيق هذه الثورة، على الفلاحين دون سكان المدن، الأمر الذي جعل منها ثورة دموية عنيفة هانت، من أجلها، كل التضحيات.

وبدأ محدثي يقرأ علي ما نقل عن ماوتسي تونغ حول رأيه في تلك الثورة:

«الثورة ليست حفل عشاء، وليست مقالا يكتب، أو لوحة زيتية ترسم، أو قطعة من قماش تطرز، ولا يمكن للثورة أن تتحقق بنعومة، بتدرج، بحذر، بأدب، واحترام، وتواضع، واعتبار لمشاعر الآخرين. الثورة هي انتفاضة، هي عمل عنيف، تقوم من خلاله طبقة بالقضاء على طبقة أخرى».

ويقول مرافقي الصيني شوان لي، وهو جامعي مثقف، إن الصيحة التي أطلقتها «الثورة الثقافية» هي: التطهير، وكان يردد كلمة «PURIFY»، على أنها كلمة السر والجهر في هذه الثورة. تطهير الحزب، وغير الحزب، من «العناصر المارقة». ويضيف مرافقي قائلا «كان ماوتسي تونغ على قناعة لا تلين بأن العناصر القيادية في الحزب قد لحقتها عدوى الفكر الغربي الرأسمالي، وفقدت ما كانت عليه من صلابة التصدي لهذا الفكر، وحماية الثورة الاشتراكية من مخاطره، فأطلق صيحته التي ألهبت مشاعر المتطرفين من أنصاره، بأن الثورة مهددة من أعدائها من الداخل وليست مهددة من عدو خارجي»..

«وأفرزت هذه الثورة المنفلتة، الهوجاء، مجموعات كبيرة من الشبان سميت بـ(الحرس الأحمر)، مأخوذة، إلى حد الجنون، بالزعيم ماوتسي تونغ، وبأقواله، وجعلت من (الكتيب الأحمر) المشتمل على بعض أقوال الزعيم كتابا مقدسا ترفعه وهي في حمى من الغضب والبكاء المهووس! وأنشأت محاكمها الخاصة بها، تلاحق، وتضطهد، وتحاكم، وتنزل العقوبات سجنا أو إعداما في مناخ من الرعب يذهل العقول. لم يسلم منها مفكرون، وأدباء، وفنانون، وأساتذة جامعات، بل كل من لحقه الشك أنه يسعى لزعزعة أركان الفكر الاشتراكي، ويدعو على نحو (خائن) مستتر للفكر الرأسمالي عدو الأمة»..

«وكانوا ينفون المفكرين الشباب من سكان المدن إلى الأرياف، ويقومون بإجبارهم على الأعمال الشاقة، كي يعاد تأهيلهم، على يد الفلاحين الأكثر فهما، والأكثر ولاء للثورة ومبادئها، ولكي تُطهر عقولهم من مواقف العقوق بالثورة، والعودة بتلك العقول للولاء لمبادئ الزعيم».

سيطر الرعب، وانهارت القيم، وتجسس البعض على الآخر تجنبا للملاحقة والاضطهاد، وغاب حكم القانون ليمارس حكم الرعب والاضطهاد.

ويقول مرافقي السياحي جيفري لي إن بعض ضحايا «الحرس الأحمر» كانوا يحاولون الانتحار خلاصا من قسوة التعذيب الذي لا يحتمل. وعندما بلغت حالات الانتحار حدا يوجب الإحاطة به، نقل عن ماوتسي تونغ قوله «لا تحاولوا إنقاذ من يريد الانتحار منهم. فلن يضير أمة كالصين أن يموت منها القليلون (!)».

وظلت «الثورة الثقافية» على ما هي عليه من القسوة المرعبة والاستهانة بالإنسان، والغلو في الهيام بأفكار الزعيم، لا سيما بين كتائب «الحرس الأحمر» التي لم تتوقف دماؤها عن الغليان، وفرض قانونها المفزع حتى وفاة ماوتسي تونغ في 9 سبتمبر 1976.

وتكاد تجمع المصادر التاريخية التي تناولت هذا الحدث بالتحليل، وقدرت ضحاياه بالملايين، على أن «الثورة الثقافية» كانت أسوأ العهود، وأكثرها ظلما، وظلامية، وجنونا لا يُكبح في تاريخ الصين، إلى أن أوقفت اندفاعها المرعب ثورة أخرى «زكية الرائحة، حلوة المذاق»، كما كان يصفها مبتسما مرافقي شوان لي، انتظرها الشعب الصيني طويلا، وصفت بـ«الثورة الاقتصادية».

(يتبع)

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية