لماذا يقبل «حزب الله» بتوريط نفسه؟

TT

«العدالة والسلام وجهان لعملة واحدة»

دوايت أيزنهاور

من المؤكد أن في قيادة «حزب الله» اللبناني عقولا تفهم في السياسة وتزن الأمور بميزان المنطق، مع أن «الحزب» فضل خلال الفترة الأخيرة استخدام عضلاته للتعاطي مع الآخرين في معترك السياسة.

وبلا شك، إن هؤلاء يفهمون أن استثمار «القوة الرخوة»، أي الحوار ومحاولات الإقناع بالمنطق، مع من يفترض أنهم شركاء في وطن واحد، أفضل على المدى البعيد من الاستعلاء عليهم وتهديدهم بعد تخوينهم.

ولكن ثمة ثلاث حقائق أسهمت في مقاربات «الحزب» السياسية الحالية مع الداخل اللبناني:

الحقيقة الأولى: أن «الحزب» - باعتراف قيادته - مؤسسة ثيوقراطية عسكرية تسير بهدي مرجعية خارجية لها رؤيتها الفكرية والسياسية والاستراتيجية التي تتجاوز بكثير حدود كيان صغير مثل لبنان.. رسمت حدوده عام 1920 الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية.

والثانية: أن هذه المرجعية الخارجية تجد الساحة الإقليمية مفتوحة لها الآن بعد فترة غير قصيرة من «استقالة» النظام السياسي العربي من مسؤولياته في وجه العدو الإسرائيلي الذي يفجر المنطقة ويدمر فرص تنميتها منذ 1948.

والثالثة: أن «الحزب» يتحرك اليوم في فراغ عقائدي إقليمي مقلق، بعد سقوط أطروحات الصراع الطبقي - التحرري التي كانت تشكلها الحركات الاشتراكية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، والأطروحات القومية بعدما تحولت معظم الأنظمة التي ترفع ألويتها لفظيا إلى أنظمة تقوم على الفساد وسطوة الاستخبارات والامتيازات العائلية والفئوية.

اليوم «الحزب» يرى نفسه مستهدفا بمؤامرة إسرائيلية - أميركية، وهذا واقع لا مجال لإنكاره إذا كان لنا رصد تصريحات واشنطن وتل أبيب منذ منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي. ولذا نسمع من مصادره أن الإسرائيليين والأميركيين يتعمدون «تلبيسه» تهمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري ورفاقه، قبل 5 سنوات، عندما كان «حزب الله» قد أصبح حقا الرقم الأساسي في المعادلتين السياسية والعسكرية داخل لبنان.

هذا الموقع الذي بلغه «الحزب»، طبعا، لم يتحقق بين ليلة وضحاها. فمنذ استعادت دمشق الإمساك بكل خيوط اللعبة، بعد مساهمتها في «حرب تحرير الكويت» وتقدير واشنطن لها هذا الموقف، تسارعت وتيرة بناء قاعدة «الحزب» بدعم مباشر من طهران وتحت رعاية دمشق والجهاز الأمني السوري - اللبناني المشترك. وهو الجهاز الذي تجسد ببعض النافذين من الضباط الكبار الأربعة الذين أوقفوا بـ«شبهة ما» بعد اغتيال الحريري، وأخلي سبيلهم لاحقا لنقص الأدلة وسط احتفالات صاخبة وداعمة من «الحزب».

ولكن، أصلا، قبل إعادة التفويض الأميركي لدمشق, وبعدها, ارتكبت في لبنان جرائم سياسية عدة استهدفت شخصيات رفيعة المستوى.. كلها طواها النسيان وقيدت بحق «مجهول». وكان القضاء اللبناني المعني مباشرة بالتحقيق فيها عاجزا عن التحرك، أو ممنوعا منه، في ظل الحالة السياسية التي كانت تخير اللبنانيين - كما هو حاصل اليوم - بين معرفة الحقيقة والفتنة.

وبالطبع، لم يجد القضاء السوري حاجة للتدخل في الأمر ما دام لا أحد من ذوي ضحايا الاغتيال اللبنانيين كان يجرؤ على التوجه إليه، كما فعل اللواء جميل السيد مؤخرا، مع أن «جهاز الأمن والاستطلاع» السوري كان يتحكم بكل كبيرة وصغيرة في البلد، منذ لحظة وصول الزائر - أو العائد - إلى مطار بيروت، أو أي من المنافذ الشرعية وغير الشرعية.

وحاليا تنشط زمرة من المحسوبين على «الحزب» والتنظيمات التي يدعمها في ترديد الدعوة لتناسي الحقيقة تحت طائلة الفتنة. والمضحك المبكي أن بعض هذه المطالبات تأتي من محامين، آخرها نداء من أحدهم إلى رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري، ابن رفيق الحريري، في إحدى الصحف اليسارية سابقا جاء فيها بالنص: «فمطلب الحقيقة والعدالة ومنع القتل السياسي بالمحاكمة والعقوبة، جميعها مطالب لا أولوية لها على المصلحة الوطنية العامة. الحكمة تقتضي منك أن تسأل نفسك: ما مصلحة لبنان وأهله في معرفة من اغتال والدك ومحاكمته؟».

أمثال هذا، ممن ينصبون أنفسهم محامين عن «حزب الله»، كل ما يفعلونه هو أن يثبتوا عليه تهمة القتل، ومن ثم، التسبب بالفتنة. والمؤسف أن «الحزب» انزلق إلى الترحيب بهذه «الخدمات» الغبية أو المسمومة التي تورطه بدلا من أن تبرئه في عيون اللبنانيين.

ولكن الجانب الأخطر هو إذا كان «الحزب» مقتنعا حقا أن بمقدوره فرض «براءته» على اللبنانيين بالقوة.